القناعة والرضا بما قسم الله

ثم من السعادة التي تقر بها عين المؤمن: القناعة والرضا بما قسم الله له، فالمؤمن تجده قرير العين، لا يتطلب بقلبه أمراًَ لم يقدَّر له، بل ينظر إلى من هو دونه ولا ينظر إلى من هو فوقه، آخذاً بتوجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم} فيا لها من وصية نافعة، ويا لها من آدابٍ حميدة، فإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل؛ رآه يفوق خلقاً كثيراً في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه، مهما بلغت به الحال، عند ذلك يزول القلق والهم والغم من قلبه، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله التي فاق فيها غيره.

أيها الإخوة في الله: في ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم} فهذا مشاهد وصحيح لو أخذ به كل إنسان ما تحمل الديون، ولا تحمل أكل الربا ومؤاكلة المرابين؛ لأنه إذا رضي بالله رباً، وقنع بما آتاه الله كما يقول العامة: اجعل لحافك على قدر رجليك، وهذا ناصح يقول:

خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن

لذلك لو نظرنا إلى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو القدوة صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يربط على بطنه الحجر من الجوع، ويمضي عليه وعلى أهله ثلاثة أهلة ما أوقد في بيوته نار، وينزل عليه ضيف ولا يجد في بيوته إلا ماءً صلى الله عليه وسلم، وقد خيره الله جل وعلا أن يجري له بطحاء مكة ذهباً فأبى وقال صلى الله عليه وسلم: {أشبع يوماً فأشكرك وأجوع يوماً فأذكرك} فصلوات الله وسلامه عليه.

أيها الإخوة في الله: إن كنتم تريدون القدوة الحسنة فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو منهجه باقٍ إلى يوم القيامة، رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفض الدنيا كارهاً لها، وابتعاداً عن الركون إليها، وقناعة بما آتاه الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حكم بالفلاح والفوز في الدنيا والآخرة للمسلم الذي رزق رزقاً حلالاً بقدر الحاجة وقنع به؛ فقال عليه الصلاة والسلام: {قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه}.

البعض من الناس لا يعرف هذه القناعة نسأل الله العفو والعافية، حتى إنه ذكر أن رجلاً من الذين يبيعون ويشترون يقول: يا ليت الليل لم يأتِ حتى يبقى في لهوه وغفلته، إنا لله وإنا إليه راجعون!

فالقناعة -أيها الإخوة في الله- كنز لا يفنى، لو قنع كل إنسان بما رزقه الله لارتاح قلبه، ولأقبل على الله سبحانه وتعالى بقلبه وقالبه، ولكن الآن انظروا كيف نأتي إلى الصلاة وقد تشعبت أفكارنا في أودية الدنيا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا والله ينبئ أننا لم نقنع بالقليل، فنسأل الله أن يرزقنا القناعة إنه على كل شيء قدير.

أيها الإخوة في الله: إن من أعظم أسباب السعادة الإيمان والعمل الصالح قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].

إن كان فقيراً، لكن حصل عنده الإيمان والعمل الصالح، فهو في نعمة وفي راحة بال وهدوء وطمأنينة، لذلك كانت الدنيا لا تزن عند الصحابة رضي الله عنهم جناحاً وطلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجودوا بشيء من أموالهم في غزوة تبوك، فأخذوا يتسابقون رضي الله عنهم، أما أبو بكر الصديق فقد أتى بجميع ماله رضي الله عنه، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله} وأما عثمان فجاء بألفي ناقة، وأما عمر بن الخطاب فجاء بنصف ماله رضي الله عنه، تتابعت التبرعات السنية من أولئك الرجال الذين تسكن في قلوبهم الدنيا، أما نحن إذا طلبت منَّا التبرعات فلا تسأل ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ كأننا نقطع من لحمنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، لذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله كان يطوف بالبيت ويقول: [[اللهم قني شح نفسي، اللهم قني شح نفسي، اللهم قني شح نفسي ويسأله بعض الصحابة: أما تعرف غير هذا الدعاء؟ فيقول إذا وقاني الله شح نفسي فأكون من المفلحين كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]]].

أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.

أيها الإخوة في الله: وعد الله سبحانه وتعالى من جمع بين الإيمان والعمل الصالح بالحياة الطيبة في هذه الحياة الدنيا، وبالجزاء الحسن في دار القرار والنعيم واللذة والبهجة والسرور، فالمؤمن يتلقى المحآبّ والمسارّ بقبولٍ لها وشكرٍ عليها، واستعمالٍ لها فيما ينفع، فإذا استعملها المؤمن على هذا الوجه أحدث له من الابتهاج بها، والطمع في بقائها على هذا الوجه سروراً؛ لأنه يعلم أنه إذا شكر الله فإن الله سبحانه وتعالى يزيده كما قال تعالى: {ولَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].

كذلك المؤمن يتلقى المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لما يمكنه مقاومته، وتخفيف ما يمكنه تخفيفه، وكذلك الصبر لما ليس عنه بدٌ، ولذلك يحصل له من آثار المكاره والصبر واحتساب الأجر والثواب أمور عظيمة، تضمحل معها المكاره وتحل محلها المسار والآمال الطيبة، والطمع في فضل الله وثوابه، لذلك أخبر صلى الله عليه وسلم وهذا خاص بالمؤمن -أيها الإخوة في الله- قال صلى الله عليه وسلم: {عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن}.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015