فأنتم أيها الأبناء! مطالبون بالجد في طلب العلم، والتفقه في الدين، والعناية بما أُسند إليكم عن صدق وإخلاص، ترجون ثواب الله، وتخشون عقاب الله، وعليكم أن تحاسبوا أنفسكم، وأن تتوبوا إلى الله من كل ما مضى من تقصير وخلل، فالله جلَّ وعَلا قد فتح باب التوبة إلى أن تطلع الشمس من مغربها، وهو القائل سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] .
وهو القائل سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25] .
وهو القائل جلَّ وعَلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] .
وهو القائل سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] أي: بالذنوب والمعاصي والشرك {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فهو يدعو عباده سبحانه إلى ألا يقنطوا، يقول لهم: لا تقنطوا، أي: احذروا القنوط، والقنوط هو: اليأس من رحمة الله، واليأس منكر ولا يجوز، والله يقول: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف:87] فلا يجوز القنوط مهما عظمت الذنوب، فباب التوبة مفتوح من الشرك وما دونه، ولكل أحد؛ من الرجال والنساء، من العرب والعجم، من الجن والإنس، فباب التوبة مفتوح.
فالواجب البدار بالتوبة من كل ذنب، والتوبة حقيقتها: 1- الندم على الماضي من الذنوب.
2- الإقلاع منها وتركها والحذر منها.
3- العزم الصادق على ألا يعود فيها، تعظيماً لله، وإخلاصاًَ له، ومحبة له، وحذراً من عقابه وغضبه جلَّ وعَلا هكذا التوبة.
التوبة ندم على الماضي من سيئاتك أيها العبد، وإقلاع منها وترك لها تعظيماً لله وخوفاً منه سبحانه وتعالى، وعزم صادق ألا تعود فيها عن إيمان ورغبة وإخلاص لله، وعن صدق وتعظيم.
وهذه التوبة بهذه الشروط يمحو الله بها الذنوب، ويكفرها سبحانه وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يهدم ما كان قبله، والتوبة تهدم ما كان قبلها) .
وهناك شرط رابع للتوبة إذا كان الذنب يتعلق بالمخلوقين، وهو تحللهم أو إعطاؤهم حقوقهم، كالنهب والسرقة والغصب والقتل، وغير ذلك من حقوق المخلوقين، لا بد من إعطائهم حقوقهم، إن كان قتلاً، فلا بد من تمكينهم من القصاص، أو إعطائهم الدية إذا سمحوا، وإن كان مالاً أعطاهم حقهم من المال أو قيمته إذا تراضوا عليه، وهكذا جميع حقوق المخلوقين لا بد أن تؤدى إليهم، ولا تتم التوبة إلا بذلك؛ إلا إذا رضوا وسمحوا.
وهذه الدار هي دار العمل هي دار التوبة هي دار الإصلاح هي دار النظر فيما سلف منك حتى تستدرك، وبعده لا إصلاح ولا حيلة، أنت الآن في دار العمل والواجب على كل مؤمن وعلى كل مؤمنة، وعلى كل ذكر وأنثى، وعلى الجن والإنس، الواجب على الجميع أن يحاسبوا أنفسهم، وأن ينظروا في عيوبهم وتقصيرهم وذنوبهم، وأن يتوبوا إلى الله من ذلك توبة الصادقين، توبةً نصوحاً؛ بالندم على الماضي، والإقلاع من الذنوب، والعزم الصادق على ألا يعود فيها؛ عن إيمان، وعن رغبة، وعن خوف من الله، وعن محبة وتعظيم، لا مجرد مجاملة، ولا تقليداًَ للناس، ولا رياءً وسمعة، ولكن عن صدق وإخلاص لله، ومحبة وتعظيم، يرجو ثوابه، ويخشى عقابه، وهو يدَع الذنوب خوفاً من الله وتعظيماً له، ويندم على ما مضى منها خوفاً من الله وتعظيماً له، ويعزم ألا يعود فيها عزماً صادقاً خوفاًَ من الله وتعظيماً له، ويؤدي الحقوق إلى أهلها من المخلوقين خوفاًَ من الله وتعظيماً له، أو يستحلهم منها إذا سمحوا وهم مكلفون مرشدون، فيسقط حقهم بالسماح.