الحمد لله إيماناً بكماله وجلاله، ويقيناً بعلمه وحكمته، ورضا وطمأنينة بعدله ورحمته، أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، أحمده سبحانه وأشكره، له الملك وله الحمد، نعمه على خلقه لا تعد، وفضله عليهم لا يحد، وما بكم من نعمة فمن الله، وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، من اتبعه واستمسك بهديه فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكاًَ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل السعادة والرضا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله واستغفروه فهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة، وما من خيرٍ إلا والتقوى موصلة إليه ودليلٌ عليه، وما من شر إلا والتقوى حرزٌ منه حصين ودرعٌ منه مكين.
أيها المسلمون: من يقاسي شدة الفاقة والبؤس يرى السعادة في الغنى وعند الأغنياء، ومن تتقلب به الأوجاع والأمراض يرى السعادة في صحة الأبدان وسلامة الأعضاء، والمستضعف الذي سلبت حقوقه ولم يقوَ على خلاصها يرى السعادة عند ذوي السلطان والجاه، ومن أشرب قلبه الفسوق والمجون والخلاعة والدعارة يرى السعادة أن تحف به الشهوات من كل جانب ليطلق لها العنان كيف يشاء يبحث الناس عن السكينة والطمأنينة، وينشدون السعادة والرضا، ويبتغون السرور والحبور، ويطلبونها في القوة والجاه، والثراء والحرية، والمناصب والرتب.
السعادة -أيها الإخوة- ليست في المال الوفير، ولا في الجاه العريض، ولا في البنين ونيل المآرب، ولقد قال الله عز وجل في أقوام: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] عذابٌ في الحياة الدنيا مشقة وألم، وهمٌ وسقم، إنه معذب النفس، متعب القلب، لا يغنيه قليل ولا يشبعه كثير عذابٌ وشقاء لا ينفك فيه عن ثلاثة: همٌ لازم، وتعبٌ دائم، وحسرة لا تنقضي ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا تراب ويتوب الله على من تاب، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له.
السعادة شيء لا يرى بالعين، ولا يقاس بالعدد، ولا تحويه الخزائن، ولا يشترى بالدرهم والدينار.
السعادة شيء داخل الجوانح، يغتبط به الجنان، ويمتلئ به الجنبان صفاءٌ في النفس، وطمأنينة في القلب، وانشراحٌ في الصدر، وراحة في الضمير، وهدوء في البال إنها شعورٌ جميلٌ بالغبطة، وإحساسٌ لذيذٌ بالطمأنينة، مع بهجة وأريحية وانطلاق نفسٍ في سكينه.
تصور أن واحداً من ذوي الجاه والثراء ابتلي بمرضٍ مزمن، يؤتى له بأطايب الطعام فلا يأكل، وإن أكل فلا يستلذ، أشرف مرة من نافذة بيته المنيف، وأطل من سرير مرضه الوثير، فلاحت منه التفاتة إلى عاملٍ من عماله قد افترش جانباً من الأرض تحت ظل شجرة، يأكل رغيفه مع إدامٍ يسير، لقمة في فمه وأخرى في يده وثالثة ترقبها عينه، كم يتمنى هذا الوجيه لو كان في متعة هذا العامل وصحته!