الحمد لله الذي جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، وخصه بأول بيت وضع للناس مباركاً للعالمين وهدىً ويُمناً، حرَّمه وعظَّمه يوم خلق السماوات والأرض، وجعله لطالبي خيري الدارَين كفايةً ومغنى، أحمده سبحانه وأشكره وأستعينه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رضي لنا الإسلام ديناً، فضلاً منه ومَنَّاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله وحبيبه وخليله بعثه مِنَّا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله، فقد فاز من أطاعه واتقاه، وخاب -والله- وخسر من كفر به وعصاه، وويل لمن زلت به قدماه، يوم يُكشَف الغطاء والبصر حديد، وينظر المرء ما قدمت يداه.
أيها الإخوة المسلمون: إن ما يكتبه الكاتبون، ويؤلفه المؤلفون، ويبحثه الباحثون، في فضل مكة وفي شرف البيت وفي تعظيم المشاعر، لا يعدو أن يكون عيضاً من فيض، فليس شرف هذه البقاع الطاهرة بالذي يُسْتَوعَب، وحسب الراغب، بل حسب العاشق الإلماع دون الإشباع، وتكفيه الإشارة عن طويل العبارة.
اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً ومهابةً وبراً، وزد من شرَّفه وعظَّمه ممن حجَّه واعتمره، وسكن فيه وجاوره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً، ومهابةً وبراً.
أيها الإخوة: لقد اقتضت حكمة الله أن يجمع أهل الإسلام على قبلة واحدة، كما شاء سبحانه أن يحفظ هذا البيت ليبقى قياماً للناس، ومثابة وأمناً، ومبعثاً للوحي، ومصدراً للإيمان.
رفع الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام قواعد البيت، وخُتِمَت النبوَّات والديانات بمحمد صلى الله عليه وسلم، لتكون لأمته -أمةِ التوحيد- قيادة ركب البشرية وهدايتها: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78].
البيت الحرام قبلة المسلمين، رمز التوحيد، ومظهر الإيمان، تشرئب إليه القلوب، وتتطاول إليه الأعناق، فهو مظهر وحدتهم، وسر اجتماعهم، ومحور شعائرهم قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] {من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم}.
من هذا التاريخ تصدَّرت مكة، وشرفت الكعبة، وتقدس البيت، يدينون لله بزيارته، ويتقربون لله بحَجِّه، وأمم الإسلام تولِّيه شطرها، فلا تمر ساعة أو لحظة من ليل أو نهار إلا وهم متوجهون إلى هذا البيت، ما بين قائم وقاعد، وراكع وساجد، وقانت وخاشع.
هو أول البيوت وضعاً، بنته الأنبياء الكرام بأيديها؛ إبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، فله شرف الأولوية، ودوام الحرمة، ومباشرة الأنبياء.