فاختلف في سبب نزول الآية على قولين شهيرين يتبعها أقوال بعيدة: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أصاب جارية من جواريه وهي مارية القبطية على فراش إحدى زوجاته، ويقال: إنها حفصة، فعظم هذا عليها، فأرضاها النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم جاريته على نفسه.
وقول آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث عند إحدى أمهات المؤمنين طويلاً بعد العصر، وأطعمته عسلاً، وكان يحب الحلوى، فغارت بعض أمهات المؤمنين، فتظاهرن عليه أن يقلن: إننا وجدنا منك ريحة كذا وكذا، وقد سأل ابن عباس حبر هذه الأمة سأل عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعمر كان ذا هيبة، وابن عباس كان طالب علم، ولا يجتمع طلب علم مع الحياء من السؤال، فلابد أن يكون في طالب العلم نوع من الإقدام عندما يسأل، لكن يسأل بأدب، فكان ابن عباس يريد أن يعرف من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمنعه هيبة عمر من أن يسأله، فلما حج يوماً مع عمر وأراد عمر أن يتوضأ وأبعد، وقضى حاجته، فلما عاد قدم إليه ابن عباس بإداوة وسكب عليه الماء، وعمر يغسل يديه فقال له: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان ظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: واعجباً لك يا ابن عباس! أي: تعجباً من جرأته على طلب العلم، قال العلماء: كره أن يجيبه، ولم يستطع أن يكتم العلم، ثم قال: هما حفصة وعائشة رضوان الله تعالى عليهما، حفصة ابنته وعائشة بنت أبي بكر رضوان الله تعالى على الجميع، ففهمنا من هذا الحديث أن اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هما حفصة وعائشة.
والمقصود: أن هذا حصل في بيوت النبوة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحل النزاع ويقضي على الأمر، فحرم على نفسه ذلك الطيب الحلال المباح سواءً كان وطئ الجارية، أو أكل الحلوى؛ حتى يرضي زوجته وينهي المسألة، ولا يشغب على نفسه أكثر من ذلك، فعاتبه ربه عتاباً رقيقاً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [التحريم:1] وهو خطاب إجلال لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي} [التحريم:1] بتحريمك، {مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1].
وتذييل الآية بقول الله جل وعلا: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] تطييب له صلوات الله وسلامه عليه، ثم بين الله منهاجاً شرعياً عظيماً: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2].
ثم أخبر الله جل وعلا عن شيء يقع في كل بيت، قال الله جل وعلا: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3]؛ فهو صلى الله عليه وسلم يدني زوجته يعطيها بعض الخبر، لكنه يعرف أنها امرأة لا يلبث عندها شيء، فأعرض عن بعض الأخبار ولم يعطها إياها، وقد قلت مراراً: من يريد أن يسوس الناس لابد أن يبقي على مسألة الطمع والخوف منه، فالناس إذا طعموا فيك بالكلية لم يعملوا، وإذا خافوا منك بالكلية يئسوا من عطائك فلم يعملوا، والعرب تقول: ولن ترى طارداً للحر كاليأس لكن اجعل من تحت يدك زوجة كانت أو طالباً، أو عاملاً، أو أجيراً أو موظفاً يرجوك ويخافك في آن واحد، فإن كان من تحت يدك لا يرجوك، بل يخافك بالكلية، أو يخافك بالكلية ولا يرجوك، فاعلم أنك غير موفق في سياسة الناس، قال الله جل وعلا: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3].
وأمهات المؤمنين حق لهن أن يتنافسن؛ لأن الزوج الذي يتنافسن عليه هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وزينب بنت جحش وعائشة كن أكثر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ملابسة عليه، فأما عائشة فتدلي بأنها بكر، وأما زينب فتدلي بشيئين: أنها قرشية وابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأنها زوجها الله جل وعلا من فوق سبع سموات، فهذا الذي جعل المنافسة غالبها ما بين زينب وبين عائشة.
والمنافسة محمودة بين الناس؛ لأنها تدفع إلى الإقدام، لكن ينبغي أن تكون محكومة بضوابط الشرع، ويمكن أن يقبل منك كلمة خرجت من غير أن تضبطها في خصم أو منافس لك، لكن لا يقبل منك أن تتعمد هذا المرة بعد المرة، فـ زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها كانت تسامي عائشة جداً، فلما وقعت حادثة الإفك وخاض من خاض في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها كانت حمنة بنت جحش أخت زينب تريد أن تذكي المسألة؛ نصرة لأختها على عائشة، وأما زينب نفسها رضي الله عنها وأرضاها فقالت: أحفظ سمعي وبصري، وأملك علي لساني، ولا أقول إلا خيراً، وعصمها الله من أن تقول أي قالة سوء في عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهكذا العاقل، فنقبل منك أن تنازع إماماً مجاوراً لمسجد لك يقع منك أنك لا تحب الصلاة وراءه، وتتثاقل ويقع في نفسك شيء إذا سمعت الناس يمدحونه فلا بأس في ذلك، فالله يقول: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5].
فالمهم ألا ينقلب هذا الأمر إلى شيء من قول أو فعل تضر به أخاك، فهنا يخرج الأمر عن إطاره الشرعي، ولا ينبغي لعاقل أن يصنعه.
نعود إلى بيوت أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن، فبينهن كان صلى الله عليه وسلم، وهذه الحجرات شهدت أموراً عظاماً، وأعظم ما شهدت هو تنزل الوحي، {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، فهو صلى الله عليه وسلم يقوم في الليل فيقول: (سبحان الله ماذا فتح الليلة من الخزائن، أيقظوا صواحب الحجرات، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)، فيقوم يصلي ويأمر أمهات المؤمنين أن يصلين, وشهدت تلك الحجرات تنقل السبطين: الحسن والحسين رضوان الله تعالى عليهما ريحانتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا.
وشهدت تلك الحجرات قدوم الوفود، وقول بعض العرب: يا محمد اخرج إلينا فإن مدحنا زين، وذمنا شين، فأنزل الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4].
وشهدت تلك الحجرات قيام الليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفقده أم المؤمنين فتجده قد انتصبت قدماه يقول في سجوده أو ركوعه: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك من لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك).