أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فقد مات مطعوناً في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس صلاة الفجر، قتله أبو لؤلؤه المجوسي الذي كان يعمل حداداً للمغيرة بن شعبه ولم يسجد لله جل وعلا قط! وأعظم العبر في موت الفاروق رضي الله عنه ما كان مستقراً عند الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من عظيم قدر الصلاة، فإنه لما طعن قال له الناس: ألا نحملك إلى بيتك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، لاحظ في الإسلام لم ترك الصلاة.
وقف رضي الله عنه وأرضاه في الصف وجرحه يثعب دماً، ومع ذلك بقي يصلي، وصلى عبد الرحمن بن عوف بالمؤمنين ركعتين خفيفتين مراعاة للموقف! فما أعظم حسرة عبد عافاه الله في بدنه ثم ينام عمداً عن صلاه الفجر! يسمع المؤذن يقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) ويؤثر الفراش الوثير على دعوة ربه العلي الكبير، فلينظر وليتأسَ بما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من الغدو والرواح إلى جماعة المسلمين، والمحافظة على الصلاة جماعة في مساجد الإسلام.
طُعن عمر وحمل إلى بيته فوقف ابن عباس رضي الله عنهما يثني عليه، ويقول له: يا أمير المؤمنين أبشر؛ فلقد كان أسلامك فتحاً، وهجرتك نصراً وأخذ يعدد مناقبه، فقال له رضي الله عنه وأرضاه: والله لو كان لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع! فما أقض مضاجع الصالحين شيء أعظم من خوفهم من الوقوف بين يدي ربهم جل وعلا.
ذكر الله الساعة واستعجال الكافرين لها، ثم قال جل جلاله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى:18]، مع ما يرجونه من رحمة الله إلا أنهم يشفقون من الخوف، ويعلمون عظمة الوقوف بين يدي الله في يوم يعرض فيه الكتاب: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
بعث عمر رضي الله عنه في ساعة احتضاره وسأل الطبيب، فقال له الطبيب: استخلف يا أمير المؤمنين فإنك ميت، وكان الطبيب من بني معاوية من الأنصار فقال له عمر: صدقتني يا طبيب بني معاوية، ولو قلت لي غير ذلك لكذبتك! فبعث ابنه عبد الله بن عمر يستأذن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يستأذنها في أن يدفن مع صاحبيه، وقال له: قل لها إن عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، ولا تقل لها أمير المؤمنين فإنني لست اليوم للمؤمنين بأمير.
فلما جاءه الخبر بموافقة عائشة فرح رضي الله عنه وأرضاه فرحاً عظيماً وقال: لقد زال عني همٌ عظيم كنت أحمله.
ثم قال: إذا مت وأدرجتموني في كفني فاستأذن مرة أخرى، وقل: إن عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه.
فدفن رضي الله عنه وأرضاه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنهما في موضع واحد في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة كلهم الثلاثة قد ألحد لهم، فهذا القبر يضم أشرف الأجساد: جسد نبينا صلى الله عليه وسلم خير الأنبياء، وجسد الصديق والفاروق خير أصحاب الأنبياء والمرسلين.
أيها المؤمنون! صدق في موت عمر قول نبينا صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد! فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، وكل ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم فهو حق.
واستجاب الله جل وعلا دعوة عمر يوم قال: اللهم إني أسالك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك! فجمع الله له مناه، فمات رضي الله عنه وأرضاه شهيداً في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه البلدة المباركة يعظم حق الجوار فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن منّ الله عليه بسكناها أو جعل الله جل وعلا لأحد منكم رزقه فيها، سواء كان من أهلها أو من غير أهلها، فإن هذا من أعظم الفضل وأجزل العطاء، ويجب أن تقابل نعم الله بشكر، فلا يرينك الله تغش في طعام أو متاع أو تظلم أحداً منهم، أو يراك الله في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتعرض لأعراض المؤمنين، تؤذي هذا، وتلمز هذا، وتؤذي أهل بيت هذا أو تغمز أو يكون منك من المعاصي غير ذلك.
وأعظم الجرم أن يكون إحداث فيها بسفك دم أو قول أو فعل قال صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً).
وفقني الله تعالى وإياكم لهدي كتابه، وجعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.