الخصيصة الرابعة التي كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مما رباهم عليه نبي الله صلوات الله وسلامه عليه: القيام بواجب المسلم نحو أسرته.
فالله جل وعلا ذكر لهم حقوقاً, فقدم الوالدين في الذكر وقال بعد ذلك: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26] وبين حق الجار، والعاقل ينتقل من دائرة ضيقه إلى دائرة أوسع, فلا يقدم من أخره الله, ولا يؤخر من قدمه الله.
وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يعرفون حق أسرهم عليهم، ألا ترى أن أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ألصق الناس به؟! فـ خديجة زوجته، وأبو بكر صاحبه، وزيد غلامه، وعلي ربيبه؛ فهؤلاء أول الناس إسلاماً؛ لأنهم كانوا قريبين جداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون عطفه ورحمته وشفقته فتأثروا, فلما دعاهم إلى الإسلام بادروا.
وينبغي للمؤمن أن يدرك واجبه نحو أسرته, فـ جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري رضي الله عنهما استدعاه أبوه ليلة أحد, ثم قال له: يا بني! قد حضر ما ترى -أي: القتل والحرب والمعركة- وإني لا أراني إلا أول من يقتل غداً, فإذا أنا مت فاقض ديني واستوص بأخواتك خيراً, وكان جابر رجلاً ذكراً واحداً بين أخوات، فحضرت المعركة وكان عبد الله بن حرام والد جابر صادقاً مع ربه, فكان من أوائل من قتل في المعركة, يقول جابر: فدفنت والدي مع غيره, وجاء في رواية -أظنها في الموطأ من مراسيل مالك - أنه دفن مع عمرو بن الجموح , يقول: لم تطب نفسي بعد ستة أشهر أن يدفن رجل مع أبي, فحفرت فوجدته كيوم دفنته إلا شيئاً يسيراً في أذنه.
ثم إن جابراً أخذ بوصية أبيه في العناية بأخواته فتزوج على الطريقة المحمدية في تعليم الناس, بحيث لا تترك الأشياء بالكلية, ولا تؤخذ بالكلية, وإنما كان يلجأ صلى الله عليه وسلم إلى الوسطية في التعامل مع الأشياء، فـ جابر أوصاه أبوه بأخواته, وهو في نفس الوقت شاب لنفسه عليه حق أن يتزوج, فكان أمامه طريقان: إما أن يترك الزواج ويعتني بأخواته، وإما أن يقول: سينشأن على رعاية الله، وسأتزوج بكراً وأنظر لنفسي، ولكن جابراً التلميذ في المدرسة المحمدية لم يصنع هذا ولا هذا, بل تزوج امرأة ثيباً, فلما تزوج الثيب أسقط شيئاً من حق نفسه حيث لم يتزوج بكراً, ولكنه لم يسقط الزواج بالكلية, وفي نفس الوقت أسقط شيئاً يسيراً من حق أخواته, فلم يتفرغ لهن بالكلية, ولكنه تزوج ثيباً حتى تقوم على أخواته، فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم وقد علم أنه تزوج: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) ذكّره بوصية أبيه, فقال: يا نبي الله! إن أبي ترك أخوات، والأمر كذا وكذا, فأقره صلى الله عليه وسلم على قوله ذلك بسكوته، ولم يعنفه ولم يثرب عليه صلوات الله وسلامه عليه.
إن من حولنا من أبوين وزوجة وبنات وبنين أحوج الناس إلينا, ولا خير فينا إن كان الإنسان منا يحاول أن يعطي الأبعد ويترك الأقرب, ولكن يقدِّم من قدمه الله؛ لأن من يعطي الأبعد ويترك الأقرب نقول له: إن كنت تريد ما عند الله فليس هذا الطريق الذي رسمه الله جل وعلا لنا, وإن كنت تريد ما عند الناس فإن الناس لا يملكون قلوبهم حتى يهبوها لك, فكيف تطلب منهم شيئاً لا يملكونه ولا يطيقونه؟! وإنما يعرف الرجل الرباني بسيره على منهاج الله وبوقوفه عند كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال المؤرخون: إن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه مر ذات ليلة على فتية من الأنصار يحتسون الخمر في حائط: أي: في بستان, فاعتلى السور ودخل عليهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين! جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث، قال الله: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] وأنت تجسست، وقال الله: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189] وأنت أتيتنا من أعلى السور، وقال الله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] أي: تستأذنوا، وأنت لم تستأذن، وكان عمر يملك الرد على هذا, ولكنهم لما أتوا عن طريق الآيات أطرق رضي الله عنه وأرضاه رأسه لهم, وهذا هو حقيقة الوقوف عند آيات الله.
قال حافظ رحمه الله: وفتية أولعوا بالراح فانتبذوا لهم مكاناً وجدوا في تعاطيها ظهرت حائطهم لما علمت بهم والليل معتكر الأرجاء ساجيها قالوا مكانك قد جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث لا تباليها فأت البيوت من الأبواب يا عمر فقد يُزنُّ من الحيطان آتيها ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم لما رأيت كتاب الله يمليها وما أنفت وإن كانوا على حرج من أن يحجك بالآيات عاصيها وهذا هو الشاهد من القصيدة كلها، فعندما تقبل قول أحد لأنه استدل عليك بالقرآن, تقبله للدليل لا لذاته, وهذه تربية عظيمة يربي المرء عليها نفسه, ولكنها تحتاج إلى نوع من المكابدة والاستمرار والأخذ والعطاء ما أمكن إلى ذلك سبيلاً.
ويندرج في هذا الأمر كذلك حب الإنسان للصغار من أهل بيته، فأعظم الوشائج بين الأبناء والبنات وبين أبويهم تلك التي تورث في الصغر، والتي يكون فيها الإنسان وافر العطاء من الحنان والشفقة والمودة لمن يحب، فقد قطع نبينا صلى الله عليه وسلم خطبة له وهو يرى الحسن والحسين يمشيان فيعثران، فلما رآهما يمشيان ويعثران قطع الخطبة وحملهما ووضعهما بين يديه ورقى أعواد منبره، ثم قال: (صدق الله ورسوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] لقد نظرت إلى ابني هاذين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى نزلت وحملتهما)، وقام من الليل -كما في المسند بسند صحيح- يسقي الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليه.