ومما يستأنس به من الحديث في مثل هذا أن للموت أثراً على الأحياء، فإن مشاهدة حالة النزع والوقوف على المقابر وما إلى ذلك يضع الرقة في القلب، قال صلى الله عليه وسلم: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) وهذا أمر مشاهد واقع معلوم لا يمتري فيه اثنان.
كما أنه قد تكون هناك قصة منفردة، أو أمر غريب يضع في النفوس أمراً أغرب، ويجعل الأثر أبعد، ويجعل له مناطاً أقوى، فمن ذلك أن معاوية رضي الله تعالى عنه سأل رجلاً عن أعجب ما رأى، فقال: يا أمير المؤمنين! لقد دخلت ذات يوم بلدة لا أعرف فيها أحداً، فأنا غريب فيها، فصليت في أحد مساجدها، فلما صليت وفرغنا من الصلاة إذا بجنازة قدمت، فصليت عليها مع من صلى، ثم رغبت أن أذهب معهم إلى القبر، فذهبت معهم، فلما وقفنا على القبر استعبرت، وتذكرت أبياتاً كنت أحفظها لرجل آخر، ومنها: يا قلب إنك من أسماء مغرور فاذكر هل ينفع عنك اليوم تذكير فبينما المرء في الأحياء مغتبطاً إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير يبكي عليه الغريب وليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور قال: فلما قلت إذا بالناس يحلقون حولي، قالوا: يا رجل! أتعرف الميت؟ قلت: لا والله، فأنا غريب عن هذه البلدة، قالوا: والله إن الأبيات التي قلتها قائلها هو هذا المقبور الذي لا تعرفه، فالرجل قال الأبيات ومضت بين الناس واشتهرت، وأخبر فيها أنه ربما يقف غريب على قبره فينعاه، ويتخلى عنه ذو قرابته، ثم يقع هذا الأمر حقيقة، فيأتي رجل غريب لا يعرفه فيقف على القبر ويستعبر ويبكي ويندبه وهو لا يدري عنه، ويكون له من القرابة والرحم من يتخلون عنه في يوم موته، فمثل هذه الحوادث تجعل في النفس رقة.
ومن ذلك ما ذكر ابن القيم في الجواب الكافي أن شاباً جاءته امرأة تائهة تبحث عن حمام تغتسل فيه على عادة الناس في ذلك الزمان، فقالت لذلك الشاب: يا أخا العرب! أين حمام منجاب؟ فكان باب داره مفتوحاً، ورأى من أمارات الغفلة على المرأة، فأشار إلى باب الدار وقال: هاهنا، فدخلت المرأة، فدخل وراءها وأغلق الباب، وأراد أن يراودها عن نفسها، فكأن الله ألهمها؛ فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، فألهمها أن تظهر له موافقتها على ما يريد، فقالت: أنا بين يديك، ولكن ليس من المعقول أن لا نلهو بشراب وطعام قبل أن نعزم على ما تريد، فتعجب فرحاً وخرج يبحث عن طعام وشراب، فلما خرج خرجت هي بعده وانصرفت إلى دارها، فلما أتى الدار أغمي عليه مما وقع فيه، ومن أسفه على أن فرت من بين يديه، فأخذ الهم يغتاله شيئاً فشيئاً حتى غرغرت روحه، فلما اجتمع عليه أهله وذووه، وقالوا: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، كان يردد: ولرب سائلة يوماً وقد ذهلت أين الطريق إلى حمام منجاب فمثل هذا وغيره يجعل في النفس رقة، ويجعل الإنسان في خوف ووجل من تلك الساعة، فإننا -يا أخي- لا ندري أنثبت على ما نحن عليه من الهدى أو لا نثبت، أسأل الله لي ولكم الثبات.
ولذلك حكى الله عن الصالحين دعاءهم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
ثم إننا لا ندري على أي حال يختم لنا، فالسعيد كل السعادة من ختم الله له بخير، ومن جعل الله جل وعلا مآله إلى خير، ومن قدمه ربه تبارك وتعالى إلى خير.