واستنفذ عليه السلام ما عنده لكن ما زال القوم على إصرارهم؛ لأنهم اختاروا طريق الضلالة: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91]، رغم أنهم كانوا عرباً فصحاء يدركون معاني ألفاظه، ولكن كما قلت: ضُرب على قلوبهم الران، فلم يريدوا أن يفقهوا شيئاً من دعوته: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:91].
وهذا من أعظم الأدلة لمن قال من العلماء إن الدعوة لابد لها من سلطان يحميها, فالداعية في مكان مخصوص يحسن به أن يشكل عصبة, وأن يكون الرأي العام معه حتى إذا احتاج إليهم أعانوه في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
وذلك أن لوطاً عليه السلام كان في أرض العراق، وآمن مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان لوط ابن أخ لإبرهيم، ثم هاجر لوط إلى قرية سدوم فبعثه الله جل وعلا إليهم، فلما دعاهم وجاءت الملائكة على صورة شباب حسان إلى لوط عليه الصلاة والسلام، وتآمر قومه عليهم، لم يكن للوط عصبة يحمونه ولا يدفعون الشر عنه؛ ولذلك قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، هذا الأمر قال فيه صلى الله عليه وسلم: (فما بعث الله نبياً بعده -أي: بعد لوط- إلا وهو منعة من قومه)، فإن قوم الرجل وإن لم يؤمنوا به فينصروه، تأخذهم العصبة والحمية في أنهم لا يقبلون للداعية منهم أن يناله أذى.
وهذا قد حصل لنبينا صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل بعثه من بني هاشم، وقد كان من أعز بيوت العرب في الجاهلية -كما هو معلوم- فلما قررت قريش حصار بني هاشم في الشعب اجتمع بنو هاشم مؤمنهم وكافرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم بالشعب، بل نقل بعض المؤرخين أن أبا طالب وهو على كفره ولم تكتب له الهداية، إلا أنه منعة وعصبية وحمية لرسولنا صلى الله عليه وسلم كان إذا نام عليه الصلاة والسلام في الشعب وأدركته عيون قريش، يأتي فيحمل النبي عليه الصلاة والسلام ويضعه في مكان آخر، ويأتي بأحد بنيه، فيضعه في مكان النبي صلى الله عليه وسلم، من أنه إذا حصل أذى ينال ابنه ولا ينال النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق الله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] ينهى الناس أن يؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم وينأى بنفسه أن يدخل في دين الله جل وعلا! والمقصود أن من التوفيق والسداد أن يكون للدعوة سلطان يحميها.
فلما قالوا: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91]، لجأ عليه الصلاة والسلام إلى بلاغة الخطاب، فحيناً يؤثر وحيناً يغير: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود:92 - 93].
وصل معهم إلى النهايات، قدّم الحجج ذكر البراهين، ذكرهم بالله، رغّب حيناً ورهب أحياناً، لكن قد كتبت عليهم الضلالة من قبل, فنزل العذاب فنجى الله شعيباً والذين آمنوا معه، وأهلك الله أهل الكفر والطغيان، قال تعالى: {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:94 - 95].