ثم ذكر الله جل وعلا نبيه يحيى عليه الصلاة والسلام أي: أن يحيى نبي ابن نبي وهو ابن خالة عيسى بن مريم -كما سيأتي بيانه- قال الله جل وعلا: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} [مريم:12 - 13]، ويحيى عليه الصلاة والسلام نبي من أنبياء بني إسرائيل وقد كان يجتمع في بني إسرائيل أكثر من نبي في الحقبة الواحدة أو في العصر الواحد أو في الزمن الواحد، ومن هنا اجتمع يحيى وزكريا وعيسى عليهم وعلى نبينا جميعاً أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وفي قول الله عز وجل: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]، استنصار لهمم الشباب ودفع لهم إلى تتبع طرائق الله جل وعلا، فإن الله جل وعلا رزق يحيى الفهم والعلم والحزم والحكمة وهو صبي، وقد قيل: إن الصبيان اجتمعوا عليه ذات يوم فقالوا له: يا يحيى! هيا بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا؛ خلقنا لعبادة الله.
وقول الله: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، دلالة على إن دين الله لا يحمله إلا ذوي العزم الشديد، وذوي العقل الرشيد، وذوي الحكمة البالغة، وذوي الآفاق الواسعة، ومن اتصف بصفات عدة؛ لأن القوة ليس المقصود: حصرها على قوة البدن فقط ولكن القوة في البدن والقوة في الرشد والتأني، حتى السكينة والصبر والتحمل فإنها شيء من القوة, قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
فمن حاولت إغراءه وجلبه بقول أو بما لا يخفى على أحد، فصبر وتأنى وتبين الحق من الباطل واسترشد فهذا يدل على قوة فيه، أما الضعف والخور والطيش والحماس المفرط فهذه لا تبني الأمة ولا تقوي مجير ولا تنفع صحوة إنما يكون أحياناً ضررها أكثر من نفعها.
فالقوة الحق: الاسترشاد، والتأني، والحلم، والبعد، وحسن الظن بالمؤمنين، والنظر في المصالح، والنظر في المفاسد، وتقديم أعظم المصلحتين، ودرء أعظم المفسدتين إلى غير ذلك مما لا يخفى على أحد منكم بإذن الله.
ثم قال الله جل وعلا: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} [مريم:12 - 13]، أي: الذي آتيناه ليحيى آتيناه من فضلنا ومن عطائنا، ومن ذا الذي يمنع -كما قلنا مراراً- فضل الله ورحمته على أحد من عباده كائناً من كان؟!