الوقفة الرابعة مع قول الله تبارك وتعالى عن خليله إبراهيم: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:99 - 102].
خليل الله إبراهيم سبق الحديث عنه في وقفاتنا مع سورة هود، وهو كما هو معلوم أحد أنبياء الله العظام ورسله الكرام، ومما ابتلاه الله به هذه الآية العظيمة وهي أمره له بأن يذبح ابنه إسماعيل.
لما نجى الله إبراهيم من النار وترك قومه وهجرهم قال لهم بملء فيه: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] ولما كان شيخاً قد بلغ من السن ما بلغ دعا الله أن يرزقه ولداً، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، فاستجاب الله جل وعلا له، قال الله تبارك وتعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]، فلما رزق ذلك الولد وهو -على الصحيح والله أعلم- إسماعيل مكث إسماعيل في كنف والده حتى تبينت فيه علامات الرشد، وعلامات الفطنة، وعلامات العلم، وأمارات الحصافة والعقل السديد؛ فلما أصبح قادراً على أن يذهب مع أبيه ويغدو ويروح وتعلق أبوه به، وأصبح له المكانة السامية في قلب أبيه أراد الله أن يخلص قلب إبراهيم له وحده؛ لأنه خليل الله، فابتلاه بالأمر بأن يذبح هذا الابن الذي تعلق به {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102].
لم يتردد إبراهيم برهة واحدة في الاستجابة لأمر الله جل وعلا، فأخذ ابنه يشاوره لا من باب التنفيذ وعدم التنفيذ، ولكن حتى يشترك الاثنان في الأجر؛ وإلا لو امتنع إسماعيل لنفذ إبراهيم أمر ربه، ولكنه أراد أن يكون ذلك على غير غرة، وأن يكون من باب التسليم لأمر الله، فتنازعت في إبراهيم وفي إسماعيل هوى النفس وأمر الله جل وعلا؛ وهذا يحدث يومياً في نفس كل عبد مع اختلاف الأمر كل أمر أمر الله به تجد في نفسك ما يمنعك عنه، وتجد في نفسك ما يدفعك إلى تركه، يتنازع عندك الشر والخير، ولكن إبراهيم لما كان إمام الحنفاء، وأبا الأنبياء عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم أسلم أمره إلى الله: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، فكان رد ذلك الابن الذي جاء من صلب العبد الصالح {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:34]: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] وانظر إلى قوله ((إِنْ شَاءَ اللَّهُ)) وإلى قوله: {مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] قال: إن شاء الله، ليثبت أن الأمر بيد الله ولم يقل ستجدني صابراً بل قال: من الصابرين، وفي هذا إظهار شيء من التواضع بمعنى: أنني من جملة من صبر لله تبارك وتعالى {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
فلما كانت اللحظة الرهيبة وساعة الابتلاء العظيمة، وأخذ إبراهيم ابنه إسماعيل فوضعه على جبينه حتى لا يرى عينيه فتغلب عليه عاطفة الأبوة، وأراد أن يمر السكين على ذلك العنق الذي لا يجد في الدنيا أحداً أحب إليه منه، وهو عنق ولده الذي رزق به بعد مرحلة من الانقطاع، وبعد مرحلة من الشيخوخة والكبر، وكان الابن فيه من الأمارات والعلامات ما يجعل الأب متعلقاً به، ومع ذلك أراد أن يمر السكين فلما لم يبق إلا قضية الذبح -والله غني عن إبراهيم وإسماعيل لكن المقصود تحقق الابتلاء، ونجح إبراهيم فيه- إذا بربه جل وعلا يناديه {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:104 - 106] (وَفَدَيْنَاهُ) أي: إسماعيل {بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] قال العلماء: بذبح عظيم؛ لأنه فدي به إسماعيل، وعظيم لأنه أضحى بعد ذلك سنة، وعظيم لأنه قيل: إن ذلك الكبش رعى في الجنة أربعين خريفاً، ففدى به الله ذلك العبد الصالح عليه الصلاة والسلام، ولذلك أثنى الله على الاثنين: على إبراهيم وعلى إسماعيل، قال عن إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54] أي: وعد أن يصبر فصدق في وعده، وأثنى الله على إبراهيم فكثيراً ما يقترن اسمه باسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال تبارك وتعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات:108] أي: فيمن يأتي بعده {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:109 - 111].
وقد سبق أن الإنسان قد يجتمع عنده أحياناً رغبة العمل الذي يريده ورغبة العمل الذي يريده الله جل وعلا، وهذه اجتمعت في خليل الله إبراهيم، وهنا أقول لنفسي ولكل أخ مؤمن ولكل أخت مؤمنة: إن إيثار هوى الله على هوى النفس أعظم السبل الموصلة إلى جنات النعيم، إن الجنة كنز غال ثمين لا ينال بالتشهي، ولا ينال بالرغبة، ولكنه يدرك بعظائم الأمور، ويدرك بأن يؤثر الإنسان هوى الله وهوى رسوله صلى الله عليه وسلم على هوى نفسه، قال الله جل وعلا: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]، وقال جل ذكره: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، ثم أخذ الله جل وعلا يذكر صفة هاتين الجنتين؛ المقصود أنه سيجتمع عندك في كل أمر هوى النفس وهوى الله جل وعلا، فلا تؤثرن لذة عادية زائلة ونعمة حائلة على مرضات الله جل وعلا، واصبر على ما أصابك، وأصبر على كبح جماح هواك، واعلم أن ما عند الله جل وعلا خير وأبقى، واعلم أن هذا الدين سمي إسلاماً لأن فيه الاستسلام والخضوع والذل لله تبارك وتعالى، قال الله عنهما: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] أي خضعا وانقادا وأسلما أمرهما إلى رب البريات سبحانه وتعالى.