فأما الحديث عن الملائكة: فإن الملائكة أحد خلق الله جل وعلا العقلاء، وخلق الله العقلاء فيما نعلم الملائكة والجن والإنس أي بني آدم، قال صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق آدم من ما ذكر لكم) أي من طين، فقد ذكر في القرآن أنه قد خلق من طين، وهؤلاء الملائكة ليسوا بنات لله ولا أولاداً، ولا شركاء معه ولا أنداداً بل هم خلق من خلقه يأتمرون بأمره وينتهون عند نهيه، قال الله جل وعلا: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ونحن معشر المؤمنين مطالبين بالإيمان بهم، كما في حديث جبريل: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) إلى آخر الحديث، وهؤلاء الملائكة عالم غيبي لا نراه، ولكننا نؤمن به طبقاً لما ثبت في صحيح الكتاب وصحيح السنة عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ فنقول أولاً: أما من ناحية خلقهم، فإنهم أقوام عظيمي الخلقة، قال الله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]، وقال صلى الله عليه وسلم كما بينا في درس سابق: (أُذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبع مائة عام)، ورأى نبينا صلى الله عليه وسلم واحداً من هؤلاء الملائكة على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها، وهو جبرائيل عليه الصلاة والسلام إبان فترة الوحي ما بين السماء والأرض له ست مائة جناح، قد سد ما بين المشرق والمغرب؛ فهذا عظم خلقهم، فسبحان خالقهم تبارك وتعالى وبحمده، فأول ما يلفت النظر في هؤلاء الملائكة عظم خلقهم، ثم يعقب ذلك ما أكرمهم الله به من خلق، قال الله جل وعلا: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:15 - 16] فوصفهم الله بكرم الصفات، وكرم الأفعال، وكرم الخلق، ووصفهم الله جل وعلا بالبر وهم كذلك، فقد أثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان جالساً في بيته قد انكشفت فخذاه أو ساقه، فاستأذن عليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فلم يتغير صلى الله عليه وسلم على حاله، ثم دخل عليه عمر فلم يتغير صلى الله عليه وسلم على حاله، فلما استأذن عليه عثمان رضي الله تعالى عنه غطى صلى الله عليه وسلم فخذيه أو ساقيه واعتدل في هيئته، فلما خرج قالت له أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تسأله عن هذا؟ فقال: (يا عائشة ألا أستحيي ممن تستحيي منه الملائكة) فهذا فيه مزية لـ عثمان، وفيه إشارة إلى أن ملائكة الله جل وعلا يستحيون كما يستحيي بني آدم، وهذا مندرج ضمن ما وصفهم الله جل وعلا به، لأنهم كرام بررة.
أما مساكنهم فإن مساكنهم في السماء، قال الله جل وعلا: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [فصلت:38] أي الملائكة {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38].
وأما عددهم فلا يعلم عددهم إلا الله جل وعلا، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] وحسبك أن تعلم شيئاً من عددهم إذا علمت ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى يوم القيامة بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام أو يجر كل زمام سبعون ألف ملك)، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن لهم البيت المعمور -مواز للكعبة التي هي للمؤمنين في الأرض- يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يأتون عليه كرة أخرى إلى يوم القيامة، أمور يقطر دونها الخيال فضلاً عن العقل، فسبحان من هذا خلقه، وسبحان من هذه عظمته، وسبحان من يسبح كل شيء بحمده.
أما عبادتهم فإن الملائكة مجبولون على الخير، لا يعصون الله ما أمرهم، لا يختصم في أنفسهم: الخير والشر كبني آدم والجن، لكنهم مجبولون مفطورون على عبادة الله تبارك وتعالى {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] وهؤلاء الملائكة لعظيم علمهم بالله جل وعلا فهم لذلك من أعظم الخلق عبادة لله تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي وجبرائيل كالحلس البالي من خشية الله جل وعلا) فهذا جبرائيل على عظيم خلقته رآه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإسراء كالحلس البالي، والحديث رواه بعض الأئمة بإسناد حسن، من حديث جابر، وهذا يدل على عظيم خشية هذا الملك الكريم، وغيره من الملائكة في هذا الأمر سواء، بل إنه صح عنه صلى الله عليه وسلم كما روى ابن جرير وغيره من الأئمة من حديث النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي أخذت السماوات رجفة شديدة، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام، فإذا سمع لذلك أهل السماوات صعقوا فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل عليه الصلاة والسلام، فإذا رفع رأسه أوحى الله إليه بالأمر بما شاء، ثم بعد ذلك يمر جبريل على كل سماء، كلما مر على سماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير) فصنيعهم هذا لعلمهم بعظمة ربهم تبارك وتعالى، والملائكة جل عبادتهم التسبيح وذكر الله جل وعلا، وجل ذكرهم تسبيح الله تبارك وتعالى، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل ما أفضل الذكر يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الذكر ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده) فأكثروا أيها المؤمنون من قول: سبحان الله وبحمده، فإنه كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه أفضل الذكر، وهو جل ذكر الملائكة لربها تبارك وتعالى.