بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً.
وأشهد أن لا اله إلا الله وحد لا شريك له، أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأودع الكتاب الذي كتبه: أن رحمته تغلب غضبه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، نبي ما ترك خيراً إلا ودل أمته عليه، ولا شراً إلا وحذر أمته منه، ولا طائراً يقلب جناحيه في السماء إلا وآتاه منه علماً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة حتى تركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
خير من صلى وصام وأفطر، اللهم صلّ وسلم وبارك وأنعم عليه ما لاح برق وأمطر، اللهم وعلى آله وأصحابه أئمة الدين ومصابيح الهدى ومنارات الدجى، اللهم وعلى من تبعهم بإحسان وعلى طريقهم اقتفى إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المدينة التي أرادها الله أن تكون مأوىً ومثوىً لخير خلقه وصفوة رسله، من المدينة التي وصف الله أهلها بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9]، من المدينة التي صعد النبي صلى الله عليه وسلم منبرها وقال: (هذه طابة هذه طابة)، من مدينة خير الخلائق، من مدينة مَن أوضح الله به الطرائق قدمنا إليكم أيها المؤمنون! في مدينة جدة.
نقول هذا غير ممتنين به عليكم ولا على أحد، بل لله العظيم الحليم وحده المنة والفضل، ولكننا نقول من باب التشرف بالمدينة التي قدمنا منها، ومن باب الفرح بالوجوه الطيبة التي قدمنا إليها، وأي ساعة أجمل من لقاء الأحبة! وتدارس صريح الكتاب وصحيح السنة! أيها المؤمنون! في هذه الليلة الطيبة المباركة وتحت العنوان الذي أُعلن تكون هذه المحاضرة بعنوان: (من نبأ المرسلين)، فإنه من باب التأصيل العلمي، وحتى نكون جميعاً على بينة فيما يقال فإن الحديث سيكون على جزأين: الأول: في ذكر بعض الحقائق العلمية عن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
والأمر الثاني: فيما يمكن أن نستقيه ونستفيده وندرسه من دروس وعبر من سيرة رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بلا استثناء.
أما الجزء الأول: فإن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم وأهبطه إلى الأرض بعد الذي كان منه، وتاب عليه ربه وهدى، كان الناس ملة واحدة يعبدون الله وحده ولا يشركون به، ثم اجتالتهم الشياطين وانحرفت بهم عن طريق الحق، فتفرقوا أمماً وشيعاً، وأضحوا على عبادة الأوثان ومحاربة دين الرحمن، فكانت حكمة الله البالغة ورحمته بالعباد أن أرسل الرسل، قال الله جل وعلا: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، فكانوا على أمة واحدة -أي: على ملة واحدة- فكان أول رسل الله نوح عليه الصلاة والسلام.