طوائف الناس في الدنيا في مقابل هدى الله

ثم ذكر الله بعد ذلك بآيات ثلاث طوائف، وفهم القرآن مهم جداً لمن أراد أن يفسر، قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:8 - 10]، فهذه طائفة.

وقال بعدها: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:10 - 13]، وهذه طائفة.

ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]، وهذه الطائفة الثالثة.

نبدأ بالأولى: الطائفة الأولى أهل شرك ظاهر وكفر بواح، وهؤلاء والعياذ بالله ليسوا أهل كتاب، بل لا يعترفون بالله أصلاً، فإنهم يجادلون في الله - كما قال الله - بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فهؤلاء العلم والهدى والكتاب دوائر، فدائرة العلم أوسع من دائرة الهدى، ودائرة الهدى أوسع من دائرة الكتاب، أو بتعبير أخص: العلم أعم، ثم الهدى، ثم الكتاب، فالعلم قد يعطاه أي أحد، والهدى يعطاه المؤمنون، والكتاب لا يعطاه إلا الأنبياء.

فهؤلاء يجادون في الله وفي وجود الله وهم لا علم معهم ولا هدى ولا كتاب، ويدخل في هذا المقام بصورة أولية كفار قريش كـ الأخنس بن شريق، والنضر بن الحارث وغيرهم ممن كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم يدخل فيه كل أحد سلك مسلكهم إلى يوم الدين، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

يقول الله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9] فالإنسان له عطفان، والثني هواء حالة الشيء، وهذا كناية عن الكبر والإعراض عن دين الله.

{ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] اللام تحتمل معنيين: تحتمل أن تكون لام التعليل، فيصبح المعنى أنه يتكبر ليضل، وتحتمل أن تكون لام العاقبة، وهو أقوى، ويصير لمعنى أنه بإعراضه أعقبه ذلك ضلالاً عن دينه.

{لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [الحج:9] بما يناله من المكارة والمصائب، {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:9 - 10]، والباء في (بما) سببية، أي: بسبب ما قدمت يداك.

{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10] ظلام على وزن فعال، وتأتي في اللغة على معنيين: تأتي على صيغة المبالغة، وتأتي على أنها مصدر صناعي، وهي هنا مصدر صناعي، والمعنى: ليس من صناعة الله الظلم، ولا يمكن حملها على أنها صيغة مبالغة؛ لأن نفي الكثرة لا يعني نفي القلة، فمن قال: إن ظلام صيغة مبالغة نسب إلى الله الظلم من حيث لا يشعر.

وبتقريب جيد حتى تبين لك الصورة نقول: مثل أن يكون هناك إنسان يحتاج أنه يطبخ لنفسه طعاماً، وهناك إنسان صناعته الطبخ، وهناك إنسان كثير الطبخ لكنه ليس صناعة له، فالأول يطبخ مرة أو مرتين في العام، فهو طابخ، وأما الثاني فهو كلما ذهب مع زملائه إلى مكان فهو يطبخ، فهو ليس صناعته الطبخ، بل له عمل آخر، لكن يقال له: طباخ على وزن فعال، بمعنى أنه كثير الطبخ، فعندما تنفي عن الأول تقول: فلان ليس بطباخ وإنما الآخر هو الطباخ، فلا يعني أن الأول لا يطبخ بتاتاً، فهو يقع منه الطبخ لكن لا يقع منه بكثرة، فإذا قلت: إن ظلام صيغة مبالغة فمعناه من حيث لا تشعر أن الله لا يقع منه كثرة الظلم، لكن الظلم يقع منه أحياناً، وهذا محال في حق الله.

وأما الثالث الذي عنده مطبخ فهذه صناعته، فهذا سواء طبخ أو لم يطبخ فإنه يقال له: طباخ، فظلام مصدر صناعي، والمعنى: أنه ليس من شأن الله أبداً أنه يظلم، فتحرير المعاني نحوياً يساعد على فهمها، فالقرآن نزل بلغة العرب.

فهذه هي الفئة الأولى.

والفئة الثانية قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:11]، و (من) هنا بعضية مثل الأولى، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] قيل: على ريب، وقيل: على شك، والأظهر أن يقال: أنه على غير يقين.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]، وليس معنى (انقلب على وجهه) أنه أتى على وجهه ثم انقلب، لكن هو قادم أصلاً من الضلالة، فلما افتتن وارتد انقلب على وجهه، أي: عاد إلى الوجه الذي جاء منه، ورجع إلى نفس المكان الذي قدم منه، وهذه أصلها نزلت في بعض الأعراب الذين كانوا حول المدينة، فلم يكن عندهم كثير إيمان، فيقدم أحدهم المدينة فيقول إذا رزق ولداً ذكراً أو نتجت خيله قال: هذا الدين دين جيد، وإذا أسلم ولم يولد له مولود ذكر ولم تنجب خيله رجع عن هذا الدين وتركه، وقال: هذا دين سيئ، قال الله: {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11].

{خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11] خسر الدنيا لأن ما يطلبه من الدنيا لم يتحقق، فلم يولد له مولود، ولم تنتج خيله، وخسر الآخرة لأنه ارتد عن الدين، قال الله: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].

فهذه هي الفئة الثانية.

والفئة الثالثة: قال الله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الحج:14] وهم أهل الإيمان والعمل الصالح، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14] أي: أن هؤلاء اهتدوا بهداية الله وأولئك ضلوا؛ لأن الله جل وعلا كتب الضلالة عليهم فساءت طينتهم، وشقيت سريرتهم، والله يقول: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، ولا يهلك على الله عز وجل إلا هالك.

فهذه هي الأقسام الثلاثة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015