والآية قبل الأخيرة قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]، ذكر الله هنا الأمم المعاصرة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالذين آمنوا هم أمة الإجابة، وهم الذين أجابوا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (والذين) فكرر الاسم الموصول، (هَادُوا) بمعنى رجعوا وتابوا كما في قوله: {هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156]، وهي لقب على اليهود، وكان لهم فضله ومعناه، فلما لم يؤمنوا بنبينا صلى الله عليه وسلم ذهب عنهم الفضل وبقي المسمى، فهم يسمون اليهود.
قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ} [الحج:17] ولم يقل: والنصارى، وقال في البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، ففي آية الحج قدم الصابئة على النصارى، وفي آية البقرة قدم النصارى على الصابئة، فقدم النصارى على الصابئة في البقرة؛ لأنه جل وعلا ذكرهم باعتبار أن النصارى أهل كتاب، والصابئة لا كتاب لهم، فأهل الكتاب مقدمون على غيرهم من غير أهل الكتاب.
وأما في سورة الحج فقدم الصابئين؛ لأن الله أراد التسلسل الزمني التاريخي، فاليهود كانوا على عهد موسى، ثم ظهرت الصابئة في العراق، ثم بعث عيسى عليه السلام فاتبعه النصارى، فمن حيث الظهور الزمني التاريخي الصابئة قبل النصارى، ولهذا قدمهم الله هنا.
(والمجوس) هم عبدة النار، وهم يقولون: إن الليل أصل في كل شر، والنهار أصل في كل خير، قال المتنبي: وكم لظلام الليل عندك من يد تخبر أن المانوية تكذب أي: أنهم كاذبون فيما يقولون، فهؤلاء هم المجوس عبدة النار ومنهم أبو لؤلؤة المجوسي الذي قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
(والذين أشركوا) يدخل فيهم كفار مكة ومن كان من مشركي العرب، وهذه الجملة: (إن الذين آمنوا إلى والذين أشركوا) جملة ابتدائية خبرها: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج:17] وانتهت الجملة، ثم جاءت جملة استئنافية: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]، فهذه جملة استئنافية جديدة لكنها مسوقة مساق التعريف، بمعنى: أن الله بما أنه جل وعلا هو الشهيد المطلع على أعمالهم جميعاً فهو وحده جل وعلا القادر على أن يحكم بينهم جميعاً يوم القيامة.