الخاطرة الخامسة وفاته صلى الله عليه وسلم

الخاطرة الخامسة أيها المؤمنون! وفاة رسولنا صلى الله عليه وسلم: كم مر على أمة الإسلام من مصائب؟ وكم مر على أمة الإسلام من فترات؟ وكم رأى الناس من المدلهمات؟ وكم حل في بني آدم من النكبات؟ وكم فجع الناس بفقد ولد وحبيب؟ وكم خسر الناس من مال ونصب؟ ولكن كل الصيد في جوف الفراء.

أيها الأحبة! بعث الله جل وعلا رسولنا صلى الله عليه وسلم لغاية واحدة عظيمة ألا وهي: نشر دين الله تبارك وتعالى وتبليغ رسالة الله ولقد قضى صلى الله عليه وسلم حياته كلها في تحقيق هذه الغاية العظيمة، فلما تحققت الغاية على يديه صلوات الله وسلامه عليه لم يبق لحياته صلى الله عليه وسلم داع؛ لأنه خلق لعظائم الأمور، وقد أنهى ذلك الأمر العظيم على أكمل وجه.

حج نبيكم صلى الله عليه وسلم بالمسلمين حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة ثم أشهد الناس ممن حضر خطبته وشهد حجه على أنه بلغ رسالة ربه على الوجه الأكمل فقال: (اللهم قد بلغت! اللهم فاشهد!)، ثم لما قضى صلى الله عليه وسلم نسكه عاد قاصداً إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه.

فما أن عاد عليه الصلاة والسلام إلا وأخذت الحمى تدب فيه شيئاً فشيئاً، والصداع ينتابه بين الحين والآخر حتى أخذ المرض يدب في جسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه شيئاً فشيئاً، فلما أحس صلوات الله وسلامه عليه بدنو أجله وقرب رحيله أخذ في بعض الليالي غلامه أبا مويهبة، وتوجه صلوات الله وسلامه عليه إلى البقيع كالمودع لأهله، واستغفر الله لهم وقال: (ليهنكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ثم قال يا أبا مويهبة: إن ربي خيرني بين أن أعطى خزائن الدنيا ثم الجنة ولكنني اخترت لقاء ربي والجنة، فقال له أبو مويهبة: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي اختر خزائن الدنيا ثم الجنة، قال: لا يا أبا مويهبة! إنما اخترت لقاء ربي والجنة).

فعاد صلى الله عليه وسلم إلى بيته ثم أخذ عليه الصلاة والسلام في الليالي التي سبقت صعود روحه إلى الملأ الأعلى أخذ صلى الله عليه وسلم يعلم الناس كيف يقبلون على ربهم جل وعلا، فحذر أولاً من اتخاذ القبور مساجد وقال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر ما صنعوا، ثم خرج في اليوم التالي يقول للناس ويكشف عن ظهره: (من كانت له عندي جلد ظهر فهذا ظهري فليتقد منه)، ثم خرج صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يوصي بأن يقضى دينه ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يوصي الناس بالأنصار خيراً ويقول لهم: قد أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس حتى رقى المنبر آخر ما رقيه صلوات الله وسلامه عليه.

فصعد المنبر وقال: (أيها الناس! إن عبداً خيره الله ما بين الدنيا ولقاء الله فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه وكان أعلم الصحابة وقال: بأبي أنت وأمي نفديك بأرواحنا وأنفسنا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا أبا بكر، إن من أمن الناس علي في صحبتي أبا بكر ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام ومودته، ثم قال: لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبي بكر)، ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى بيته وأخذ المرض يثقل عليه فاستأذن زوجاته في أن يمرض في بيت عائشة.

فبقي عليه الصلاة والسلام وهو أكرم خلق الله على الله يمرض في بيت عائشة وقرب دنو أجله يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، فكان همه عليه الصلاة والسلام أن يودع الناس وقد عرفوا ربهم جل وعلا حق المعرفة وأقبلوا عليه جل وعلا حق الإقبال، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي حيناً ويتركها حيناً، ثم رأى تثاقل المرض عليه فأوصى أن يصلي أبو بكر بالناس.

فمكث أبو بكر يصلي بالناس حتى كان اليوم الذي سبق موته صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس يتهادى بين رجلين، فلما رآه أبو بكر تأخر قليلاً وصلى بصلاته، وصلى الناس بصلاة رسولنا صلى الله عليه وسلم، ثم عاد عليه الصلاة والسلام راجعاً إلى بيته حتى اشتدت حرارته وغلبته الحمى، فصب عليه سبع قرب عليه الصلاة والسلام رجاء أن يفيق فكان يفيق أحياناً ويغيب حيناً آخر.

ثم كان يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول صلوات الله وسلامه عليه فدخلت عليه ابنته فاطمة في ضحى ذلك اليوم فقربها إليه وأخبرها بخبرين بكت من الأول وضحكت من الثاني، أخبرها بأنه سيلقى ربه بمرضه هذا فبكت رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وأخبرها بعد ذلك أنها أول أهله لحوقاً به فسرت رضي الله تعالى عنها وأرضاها وأنها سيدة نساء أهل الجنة، ثم دخل عليه أسامة بن زيد وطلب منه أن يدعو له فلم يقدر صلوات الله وسلامه عليه أن يدعو له إنما أخذ يشير بالدعاء إشارة ثم اشتد ضحى ذلك اليوم فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر أخو عائشة على عائشة وفي يده سواك يتسوك به.

فأمعن صلى الله عليه وسلم النظر إلى المسواك فعلمت عائشة أنه يريده فقضمته له ثم طيبته له ثم تسوك صلى الله عليه وسلم ثم أشار بأصبعه الشريف إلى السماء وينظر إلى سقف البيت وهو يقول: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات)، ثم قال: (بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى)، ثم كان آخر ما ردد صلوات الله وسلامه عليه وهو مفارق الدنيا: (لا إله إلا الله، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن ذلك رفيقاً، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، ثم مالت يده صلوات الله وسلامه عليه)، وأفضت روحه إلى ربه في الرفيق الأعلى والمحل الأسمى.

وانتقل عليه الصلاة والسلام إلى جوار ربه وفاضت روحه وجسده بين سحر ونحر عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها فأرضاها، فما زادت على أن وضعته وأخذت تلطم خدها رضي الله تعالى عنها وأرضاها وكانت يومئذ شابة صغيرة لم تبلغ الثانية عشرة بعد وهي تندب رسولنا صلى الله عليه وسلم، وإذا بـ فاطمة تقول: يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، يا أبتاه! إلى جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبرائيل ننعاه.

فثقل الأمر على الصحابة وسادهم الهرج والمرج حتى أقبل أبو بكر فأزاح الغطاء عن جسد رسولنا صلى الله عليه وسلم الطاهر وقبله وهو يقول: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها في الدنيا، ثم صعد المنبر وقال قولته الشهيرة: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

فلما فرغ أصحابه من أمر الخلافة وكان ذلك في يوم الثلاثاء اليوم التالي لوفاته صلى الله عليه وسلم غسلوه عليه الصلاة والسلام دون أن يكشفوا له عورة، والذين تولوا غسله آل بيته علي بن أبي طالب، والعباس، ونفر من غلمانه صلوات الله وسلامه عليه، ثم إنهم بعد ذلك كفنوه في ثلاثة أثواب عليه الصلاة والسلام، ثم حفروا له في مرقده في بيت عائشة عليه الصلاة والسلام، ثم صلوا عليه قبل أن يدفنوه أرسالاً، أي: أفراداً، يدخلون من باب ويخرجون من باب آخر.

فصلى عليه أول الأمر قرابته من بني هاشم، ثم صلى عليه المهاجرون، ثم صلى عليه الأنصار، ثم صلى عليه عامة الناس، ثم صلى عليه النساء، ثم الصبيان، ثم العبيد، ثم بعد ذلك واروه صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق على الله في التراب ودفنوه ونزل في قبره علي وقثم والفضل بن العباس ومولاه شقران، وأحد الصحابة من الأنصار يقال له: أوس، استأذن قرابته بأن ينزل في قبره صلوات الله وسلامه عليه.

وقد استعظم أصحابه أن يؤمهم أحد على جسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه، فلذلك صلوا عليه آحاداً وأفراداً، ثم واروه التراب صلوات الله وسلامه عليه، وهنا يقول حسان: بطيبة رسم للنبي ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد معالم لم تطمس على العهد آيها أتاها البلاء فالآي منه تجدد عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقبراً به واراه في الترب ملحد وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد وهل عدلت يوماً رزية هالك رزية يوم مات فيه محمد صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد فإنا لله وإنا إليه راجعون

طور بواسطة نورين ميديا © 2015