ثم جاءت الغزوات فكانت غزوة بدر وهي حدث عظيم، لكن من أعظم ما يلفت النظر فيها: أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن أخذ بالأسباب المادية فجهز الجيش، وأعد العدة، لجأ إلى ربه فاللجوء إلى الله جل وعلا لا يستغني عنه أحد كائناً من كان مهما عظمت قدراتنا، وبلغ حولنا ما بلغ، وزادت قوتنا، فحاجتنا إلى الله جل وعلا حاجة أبدية ملحة؛ لأننا فقراء إلى الله جل وعلا مهما بلغنا.
مكث صلى الله عليه وسلم في العريش ينادي ربه حتى سقط رداؤه عن منكبه صلوات الله وسلامه عليه، وأبو بكر يأتيه من الخلف فيضمه فيقول: بعض مناشدتك ربك يا رسول الله! فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، فكان النصر له صلوات الله وسلامه عليه، فلما أقر الله عينه بالنصر ووضع القتلى في قليب بدر نظر إليهم عليه الصلاة والسلام وأخذ يقول: يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! يناديهم بأسمائهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فتعجب أصحابه قالوا: يا رسول الله! تكلم قوماً قد رموا قال: يا عمر! والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يملكون جواباً)، وعاد صلى الله عليه وسلم، وكان هذا النصر أعظم ما يكون المسلمون في حاجة إليه حتى تطمئن أنفسهم ويثقوا بنصر الله؛ لأنها أول نزال بين أهل الكفر وأهل الإيمان بعد أن أذن الله بالقتال، ثم كانت أحد وما أدراك ما أحد، فيها من العظات الشيء الكثير لكن فيها: أن وجهه صلى الله عليه وسلم كان نوراً يتلألأ كأنه فلقة قمر، فمع ذلك يريد الله أن يثبت أن الكمال المطلق لله وحده سبحانه فيشاع في أرض المعركة أنه صلى الله عليه وسلم قتل، فيشج رأسه وتكسر رباعيته فيسيل الدم على وجهه الشريف، ثم يمسح صلى الله عليه وسلم وجهه الطاهر بيديه ويقول: (كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم؟ كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم؟)، فهو يدعوهم إلى الإسلام فينزل الله جل وعلا عليه قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، فالأمر كله لله جل وعلا وحده، وليست بني قومي اليوم إذا سمعوا بهلاك أحد أو بموت أحد أن لا يشغلوا أنفسهم هل هو في جنة أو في نار؟ فهذه أمور لله تبارك وتعالى وحده، ولن يكلفنا الله تبارك وتعالى بأن ندخل من نشاء الجنة أو أن نحرم من نشاء منها، أو أن ندخل من نشاء النار أو نمنع من نشاء منها، فالجنة والنار لله العزيز الغفار، والله جل وعلا أعلم بخلقه، وأعلم بما تكنه الصدور، فهو تبارك وتعالى أسرع الحاكمين.
وقد قال بعض الصالحين لولده ينصحه: يا بني! إن الله لن يسألك لما لم تلعن فرعون؟ مع أن فرعون ملعون في كتاب الله، لكن المؤمن العاقل مثل هذه الأمور لا يلقي لها بالاً، ولا يشغل بها نفساً فالجنة والنار بيد رب العالمين، وبيد أرحم الراحمين، ولن يسألنا الله من هم أهل الجنة؟ ومن أهل النار؟ لكننا لأنفسنا نسأل الله الجنة ونستجير بالله جل وعلا من النار.
وفي مسند البزار: (أن لا إله إلا الله كلمة كريمة على الله، من قالها في الدنيا صادقاً دخل الجنة، ومن قالها في الدنيا كاذباً حقنة دمه وحسابه على الله جل وعلا) فالعاقل لا يشغل نفسه بما لا يعنيه، لكنه في حوادث الدهر يحكم فيهم ما أمر الله به ورسوله، أما الحوادث الأخروية فلسنا مسئولون عنها؛ لأن علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
في غزوة أحد أراد الله جل وعلا أن يربي المسلمين على أن القادة العظماء والزعماء الأفذاذ لا يربون الناس على التعلق بذواتهم وعلى حبهم والمبالغة في الغلو فيهم ولكنهم يربون الناس على التعلق بالله جل وعلا فلما أصاب المسلمين ما أصابهم يوم أحد قال الله جل وعلا معاتباً أهل الإيمان: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144 - 145].
فالعاقل لا يربي الناس على التعلق به، وإنما يربيهم على التعلق بإله الكون وحده، فلا إله إلا الله تعني: أن الكمال المطلق، والحب المطلق، والتوحيد المطلق، والتكبير المطلق، لا يكون إلا لله جل وعلا وحده، فإذا كان سيد الخلق وجوده رحمة، وعدمه لا يضر المسلمين شيئاً إذا اعتصموا بما جاء، كان غيره أولى وأجدر أن تطبق عليه هذه القاعدة، فكان صلى الله عليه وسلم حية مبادئه، والدين الذي جاء به، أما هو صلى الله عليه وسلم فيجري عليه حتى قلم القضاء: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30 - 31].
فهذا أعظم ما خرج المسلمون منه يوم أحد من تربية إلهية لهم، ثم كانت غزوة الأحزاب فجمعت قريش وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينته فاستشار الناس؛ فأشار عليه سلمان الفارسي أن يحفر الخندق، والخندق وسيلة حربية مجوسية أخذها سلمان من أهل فارس لم يكن للعرب عهد بها ولا علم آنذاك، وهنا نأتي لما عرف في عصرنا بصراع الحضارات، ينبغي أن يفرق أهل التقوى ما بين التقارب الديني وما بين التقارب الحضاري، الدين -يا أخي- صنع إلهي لا يملك أحد أن يزيد فيه وينقص، والحضارة صنع إنساني قابلة للزيادة والنقصان، قابلة للأخذ والعطاء، قابلة للتلاقح بين الأمم إذا تقاربت وتناكحت.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مشورة سلمان وعمل بالخندق لما رأى فيه مصلحة يقوم به فلاح أمته، ولم يقل صلى الله عليه وسلم حينها: (من تشبه بقوم فهو منهم)، وهو محمول على من تشبه بهم في أمور الدين، أما الصناعات الإنسانية فليست ملكاً لأحد، ولقد كانت العرب لا تأتي المرأة وهي مرضع خوفاً على أن يؤثر الإسلام على الرضيع فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارس والروم تصنع ذلك ولا يضر أبناءها شيئاً لم ينه أمته عنه كما روى مسلم في الصحيح من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، فالحضارات حق مفتوح وأمر مشاع يجوز للأمة أن تأخذ منه إذا رأت أن في ذلك مصلحة، والحكمة ضالة المسلم أنى وجدها أخذها، أما الدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، ما عندنا من الدين يمنعنا أن نأخذ ولو قطرة من سقاء من أي دين أو ملة على وجه الأرض؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، ثم توالت الأمور حتى كانت السنة السادسة فعزم صلى الله عليه وسلم على التوجه إلى مكة معتمراً وأخذ معه رهطاً من أصحابه معهم السيوف في قرابها، فلما دنوا من البيت العتيق منعتهم قريش من أن يدخلوه فجرى ما جرى من التفاوض، تريد قريش أن تطمئن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت لقتال، فكان أن بعث صلى الله عليه وسلم عثمان؛ لأنه كان يومئذ عزيزاً منيعاً في بني أمية، وكان أكثرهم مشركاً حينذاك، ثم أشيع أن عثمان قد قتل فبايع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم نبينا صلى الله عليه وسلم على الموت تحت ظل شجرة سمرة، فالذين بايعوه ألفاً وأربعمائة رجل إلا الجد بن قيس، وقد كان رجلاً منافقاً لم يحضر البيعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء: (أنتم خير أهل الأرض)، وقال لهم: (لا يدخل النار رجل بايع تحت الشجرة)، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بسط يمينه وقال: (هذه عن عثمان ثم بسط يساره يبايع نفسه بنفسه)، قال العلماء: فكانت يد رسول الله لـ عثمان، خير من يدي عثمان لـ عثمان نفسه.
بعد هذه البيعة وبعد مداولات أقر الصلح بين المسلمين وكفار قريش، والصلح ظاهره: أن فيه إجحافاً بحق المؤمنين وباطنه الرحمة، إذ وضعت الحرب وألقت أوزارها، وخلدت الناس، وأخذ ذوي العقول يفكرون في الطرائق المثلى للوصول إلى الإيمان.
إن هناك أناساً يرزقهم الله جل وعلا عقلاً فيمنعه من الاستفادة منه: حجب التقليد التي يضعونها أمامهم، أبو جهل كان يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم على الحق ورأى من الآيات ما يشهد له بذلك، لكن الحسد والتقليد الأعمى منعه، وكان سبباً في حرمانه من دخوله الإيمان.
أما سراقة بن مالك فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ورأى الآية لما غارت قوائم فرسه آمن أن النبي حق وعرف الآية، ونبذ التقليد وراء ظهره، خلال هذه الفترة بعد الصلح رجع عقلاء الناس إلى أنفسهم وأخذوا يناقشونها ويحاسبونها فدخل كثير من الناس أفواجاً في دين الله، فانقلب ذلك العدد من ألف وأربعمائة رجل إلى عشرة آلاف يوم الفتح كما سيأتي، ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفي العام الذي بعده كانت عمرة القضاء، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه غزا خيبر، ثم لما كان العام الثاني كانت من ضمن شروط صلح الحديبية: أن من شاء أن يدخل في حلف محمد دخل، ومن شاء أن يدخل في حلف قريش دخل، فدخلت بنو بكر في حلف قريش، ودخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، فأعانت قريشاً بكراً على خزاعة، فقدم عمرو بن سالم الخزاعي إلى ال