وومما سنقف عنده في هذه الآيات الكريمات قول الرب تبارك وتعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60].
(الناس) عام أريد به الخصوص، والمراد به -على الصحيح- كفار قريش، والمقصود أن الله متمكن قادر عليهم، ومعلوم أن الله قادر عليهم وعلى غيرهم، ولكن المخاطبة بالآيات لكفار مكة.
قال جل وعلا: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60] ومعنى الآية: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك، وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس فأين الفتنة في الرؤيا؟ وأين الفتنة في الشجرة الملعونة؟ الفتنة في الرؤيا هي: أن كفار قريش يؤمنون بعقولهم، ولا يؤمنون -كما يؤمن أهل الإيمان- بقلوبهم، فالفتنة أن الغدو والرواح من مكة إلى بيت المقدس يحتاج إلى أربعة أشهر، فإذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم: إنه وقع في برهة من الليل فهذا بالعقل لا يقبل، ولكنه يقبل بالقلب إذا كان المرء مؤمناً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يقول على ربه الكذب، وكفار قريش لم يؤمنوا ففتنوا بهذه الرؤيا.
أما سادات المؤمنين -كـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه- فقد قالوا: نصدقه في الخبر يأتيه من السماء، فكيف لا نصدقه بأنه غدا وراح إلى بيت المقدس في برهة من الليل؟! وهنا تأتي قضيه مهمة، وهي أن المؤمن يعلم أن ما أخبر به الله وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحق، فنؤمن بكلام الله على مراد الله، ونؤمن بكلام رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ذكر الأفذاذ -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- فقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7].
والمؤمن الحق يعلم أنه لو لم يقدر على أن يفقه ذلك بعقله فإنه ما دام قد ثبت عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم فقد وجب قبوله وترك ما يرده عقله بالكلية، فالعقل مكتشف للدليل وليس منشئاً له، فهذه هي الفتنة في الرؤيا.
وأما الفتنة في الشجرة فإن الشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم، والفتنة فيها أن العرب وغيرهم من الأمم يعلمون أنه لا يجتمع خضرة مع نار، والله يقول عن هذه الشجرة: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64] ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول لكفار قريش ما أخبره الله به: إن هذه الشجرة تنبت في أصل النار، فقال بعضهم لبعض متهكماً: ما يخبرنا به محمد جنون، فكيف تنبت شجرة في أصل الجحيم؟! ونسي هؤلاء ومن تبعهم أن الله جل وعلا خلق الأسباب ومسبباتها.
فالنار جعلها الله جل وعلا ذات قدرة على الإحراق، فالله أعطاها القدرة على أن تحرق البشرة والجلود وغيرها، فلما أراد الله إكرام خليله إبراهيم ووضع عرياناً صلوات الله وسلامه عليه في النار، أمر الله النار -وهو ربها وخالقها-: بأن تسلب عنها خاصيتها التي أعطاها -وهي الإحراق- فناداها ربها وهو أعلم: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فالنار التي جرت السنن على بأنها تحرق لم تحرق؛ لأن الله جل وعلا سلبها تلك الخاصية، والشجرة لم يعطها الله في الدنيا خاصية أن تحيا في النار، فهذه الخاصية يعطيها الله جل وعلا في نار جهنم لشجرة الزقوم فتنبت، وهي طعام أهل النار، عياذاً بالله، فهذا كله بقدرة الرب تبارك وتعالى.