ومن لوازم التوحيد: أن تعلم أنه بالتوحيد ينج العبد في الدنيا والآخرة، فلا منجي أعظم من التوحيد، فتوحيد الله جل وعلا في القلب، وحسن الظن به تبارك وتعالى، وصدق التوكل عليه، مع حسن الاعتماد عليه جل وعلا في كل أمر، هو من أعظم المنجيات، والرب تبارك وتعالى له أولياء وأعداء، وأولياءه وأعداءه كلهم يقر أن الله جل وعلا هو المفزع عند حلول الكرب، قال الله جل وعلا: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65].
وإنما التفرقة بين أولياء الله وأعداءه عند عدم حلول الكرب، فإن أولياء الله -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- يحبون ربهم في كل آن وحين، ويلجئون إليه جل وعلا في السراء والضراء، ويحمدونه على السراء، ويلجئون إليه في الضراء.
وأما أعداء الله فهم على أقسام عدة لكن لا يقال عدو: إلا لمن كفر بالله أصلاً, ولم يدخل الدين، ولم يؤمن بالله جل وعلا.
فهؤلاء رغم صنيعهم هذا إذا وقعوا في الكرب وحلت بهم النازلة وداهمهم الخطب لجئوا إلى الله جل وعلا، قال الله جل وعلا يصور حالهم: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12].
وأما أولياء الله المتقون فهم يفزعون إلى ربهم جل وعلا في كل آنٍ وحين، والتوحيد مستقر في قلوبهم في البر والبحر، وفي العسر واليسر، وفي المنشط والمكره، وفي السراء والضراء، وهم في المساجد وخارجها، وما بين أهلهم وعند أقرانهم، وفي كل مكان يحلونه وكل زمان يدور عليهم، والتوحيد باق في قلوبهم، ويعلمون أنه لا ملجأ من الله جل وعلا إلا إليه.
وقد حققه يونس لفظاً وحالاً ومقالاً: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، فاستجاب الله دعاءه، وأحسن الله عاقبته، وكشف الله كربه, وآمن له قومه، وقدمه الله جل وعلا أعظم تقديم، وذكره في الكتاب الكريم إلي يوم الدين.
فقدم توحيد الله جل وعلا وهو يستغيث بربه صلوات الله وسلامه عليه، وهذه سنن الأخيار وطرائق الأبرار.
وكما أن التوحيد منجي في الدنيا فهو منجي في الآخرة، يقول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح وغيره: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق، ينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، فيقول الرب جل وعلا له: يا هذا! أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب! فيقول الله: أتنكر مما ترى شيئاً؟ يقول: لا يا رب! فيقول الله جل وعلا له: إن لك عندنا بطاقة، فيقول: يا رب! وما تغني هذه البطاقة أمام هذه السجلات؟ فيقول الحي الذي لا إله إلا هو: في البطاقة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيقول الرجل: يا رب! وما تغني هذه البطاقة أمام هذه السجلات؟)، قال صلوات الله وسلامه عليه مخبراً وهو لا ينطق عن الهوى, قال: (فتوضع السجلات في كفه وتوضع البطاقة في كفه، فطاشت السجلات ورجحت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء).
قال العلماء رحمهم الله في شرح هذا الحديث: هذا دليل عظيم على أن هذا الرجل وإن كان فرداً قد حقق التوحيد في قلبه أعظم تحقيق، وآمن حقاً أنه لا إله إلا الله، وأنه لا ملجأ من الرب تبارك وتعالى إلا إليه، وهذه منازل في القلوب يتفاوت الناس فيها.
ألم يقل صلى الله عليه وسلم: (إن رجل ممن كان قبلكم أوصى بنيه: أنني إذا مت فحرقوني، ثم ذروا رمادي في الفلاة والهواء، ففعل بنوه مثل الذي أوصى، فجمع الله جل وعلا ما تفرق منه، ثم أقامه بين يديه، فقال له ربه جل وعلا وهو أعلم: يا عبدي ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب! مخافتك وخشيتك، فغفر الله جل وعلا له)، مع أن العمل الذي صنعه باطل باتفاق المسلمين، لكن صلحت نيته وعظمت خشيته من الرب تبارك وتعالى، فحقق بنيته ما لم يحققه بعمله، والله جل وعلا يقول: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9].
وتوحيد الله جل وعلا مكمنه القلوب تطوى عليه الأفئدة، وتكنه الصدور، ويوم القيامة يتبين من بكى ممن تباكى، قال الله جل وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42 - 43].
يدعى قوم إلى السجود كما أمر الله في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقبل الناس على ثلاثة طوائف: قوم يرفضون البتة, وهذا والعياذ بالله صنيع أهل الكفر.
وقوم يقبلون تصنعاً ورياء.
وقوم يقبلون تقرباً إلى الله جل وعلا.
فإذا كان يوم القيامة وكشف الرب جل وعلا عن ساقه خر أهل الموقف سجداً، وهم على ثلاثة طوائف: أما أهل الكفر فلا يسجدون أصلاً.
وأما أهل الإيمان جعلنا الله وإياكم منهم، فيسجدون ويمكنون من السجود، وهذا من دلالة قبول الله لسجودهم في الدنيا.
وآخرون -أعاذنا الله وإياكم- يهمون أن يسجدوا فيجعل الله جل وعلا أظهرهم طبقاً واحداً، فلا يتمكنون من السجود، فهؤلاء المنافقون الذين كانوا يسجدون لغير الله في الدنيا.
نعوذ بالله من الخذلان والحرمان.