قال الله عنهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]، ونحن الآن وكل مسلم اليوم لسنا من المهاجرين ولسنا من الأنصار، لكن نرجوا الله برحمته أن يجعلنا ممن تبعهم ويتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال الله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، ومن جميل ما يروى في هذا المقام: أن الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله لما جاء يجادل الشيعة -فيما نقل إلينا ولم أره- قال للعلماء الذين معه: أتركوهم لي أجادلهم، وهذا أيام شاه إيران قبل الثورة الخمينية فقال: أنا أسألكم سؤالاً: هل أنتم من المهاجرين؟ قالوا: لا، قال: هل أنتم من الأنصار؟ قالوا: لا، فقام الشيخ وهو يقول: وأنا أشهد عند الله أنكم لستم مما تبعهم بإحسان ومضى، فإذا خرج الإنسان من هذه الثلاثة لم يبق شيء؛ لأن الله قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100].
ثم هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فاستقبلوه أعظم استقبال وأحبوه، وجعلوه في بيوتهم، في بيوت بني النجار، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيره: (خير دور الأنصار بنو النجار)، وبنو النجار: من الخزرج وهم أخوال عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وبنو عبد الأشهل)، وهؤلاء الذين منهم: سعد بن معاذ، فلما نزل إلى المدينة وأناخ مطاياه صلى الله عليه وسلم أول الأمر في قباء بعث إلى أخواله من بني النجار، والإنسان أعظم ما يعتز بعصبته، فجاءوا متقلدين السيوف رضي الله عنهم وأرضاهم يحيطون بنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه، هؤلاء بنو النجار، وبنو عبد الأشهل، وبنو عبد ساعدة، وبنو الحارث، وغيرهم من بيوت الأنصار مما يذكر عنهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام وإن كان هذا متأخراً: (إن الأنصار سيجدون أثرة بعدي)، أي: أن الناس لا يعطونهم قدرهم بعد ذلك، وستوزع أمور لا ينالون منها شيئاً كثيراً، وقد وقع هذا حتى إنهم أوذوا على لسان الأخطل أحد الشعراء الثلاثة في بني أمية، الأخطل وجرير والفرزدق.
وقد سمي الأخطل؛ لصغر أذنيه، وكنيته: أبو مالك غياث بن غوث، وكان رجلاً تغلبياً من حيث القبيلة، نصرانياً من حيث الدين، وما دام أنه كان نصرانياً فلا يرجى منه أن يمدح أحداً من المؤمنين، فقد هجا الأنصار إرضاء لأحد الناس فقال: ذهبت قريش بالسماحة والندى واللؤم تحت عمائم الأنصار فذروا المكارم لستمُ من أهلها وخذوا مساحيكم بني النجار ولك أن تقارن بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير دور الأنصار بنو النجار)، وقول هذا الكافر: وخذوا مساحيكم بني النجار، وقوله: واللؤم تحت عمائم الأنصار.
لكن هذه سنة الله جل وعلا في خلقه، يبتلي الكامل بالناقص، والأمثل بالبعيد، والمؤمن بالكافر.
وموضع الشاهد: أن ما ذكر في بني النجار تاريخياً أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وما حصل لهم بعد النبي صلوات الله وسلامه عليه، هؤلاء الأخيار رضي الله عنهم لهم مواقف عبر التاريخ سنتكلم عن بعض تلك المواقف على وجه الإجمال: فهذا موقف عام: وهو استقبالهم للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وفرحهم أعظم الفرح بدخوله إليها، قال أنس رضي الله عنه يصور هذا اليوم: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فكان يوماً أنار منها الله به كل شيء.
ووصف يوم وفاته فقال: أظلم فيها كل شيء عليه الصلاة والسلام.
وهناك موقف جماعي من مواقفهم المشهورة: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم قبل أن يخرج إلى بدر؛ لأن العقد الذي بينهم وبينه أن يحموه ما دام في المدينة، وبدر خارج المدينة فتكلم سعد بن معاذ وتكلم غيره وأظهروا ولاءً عظيماً لله ورسوله نصرةً جليلةً للدين، وكان مما قالوا: والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، ووالله لو خضت بنا برك الغماد لخضناه معك، كنايةً عن أي أمرٍ خطير، ففعلوا ما فعلوا رضي الله عنهم وأرضاهم.