ثم إنني وجدت كلاماً عجيباً للإمام ابن القيم في كتابه القيم مدارج السالكين وهو كلام طويل، لكنني أذكره مختصراً في هذه الكلمات.
عنوان هذه المقالة له رحمه الله "مشاهد العبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه" والكلام مختصر -يعني موقف الإنسان فيمن يجني عليه أو يؤذيه: المشهد الأول: مشهد القدر وأن ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره فيراه كالتأذي بالحر والبرد والألم والمرض وهبوب الرياح، فإن الكل أوجبته مشيئة الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] .
الثاني: مشهد الصبر، مشهد وجوب الصبر وحسن عاقبته وجزاء الصابرين، وما يترتب على الصبر من الغبطة والسرور.
الثالث: مشهد العفو والصفح والعلم، فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلا لعشاً في بصيرته، فإنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً} كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وكما علم ذلك بالتجربة والوجوب.
الرابع: مشهد الرضا وهو فوق مشهد العفو لا سيما إذا كان ما أصيب به الإنسان سببه القيام بما يرضي الله وهذا شأن كل محب صادق يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره، ومتى تسخط به وتشكا منه كان ذلك دليلاً على كذبه في المحبة.
الخامس: مشهد الإحسان وهو أرفع مما قبله، وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان، فيحسن إليه كلما أساء هو إليه، ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح منه، وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه.
فينبغي لك أن تشكره، ويهون ذلك -أيضاً- علمك بأن الجزاء من جنس العمل؛ فإن كان عملك فيه إساءة من المخلوق إليك عفوت عنه وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك، وهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني سبحانه وتعالى بك في إساءتك يقابلها بما قابلت به إساءة العبد إليك، فهذا لا بد منه وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها.
السادس: مشهد السلامة وبرد القلب، وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته وهو: ألا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وبإدراك الثأر منه، بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه، فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه، فيكون بذلك مغبوناً والرشيد لا يرضى بذلك.
السابع: مشهد الأمن؛ فإنه إذا غفر ولم ينتقم ولم يقابل أمن من تولد العداوة وزيادتها، وإذا انتقم واقعه الخوف ولا بد فإن ذلك يزرع العداوة، والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيراً فكم من حقيرٍ، أردى عدوه الكبير.
الثامن: مشهد الجهاد، وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وصاحب هذا المقام قد اشترى الله تعالى منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن.
فإذا أراد الله أن يسلم إليه الثمن وهو الجنة فليسلم هو إلى الله تعالى السلعة ليستحق ثمنها، فلا حق له على من آذاه إذا كان قد رضي بعقد هذا التبايع، فإنه قد وجب أجره على الله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] .
ومن رضي بقتل النفس رضي بما دون ذلك.
التاسع: مشهد النعمة وذلك من وجوه: الأول: أن يشهد نعمة الله عليه أن جعله مظلوماً يترقب النصر، ولم يجعله ظالماً يترقب الأخذ والمقت.
والثاني: أن يشهد نعمة الله تعالى في التكفير بذلك من خطاياه {فإنه ما أصاب المؤمن من همٍ ولا غمٍ ولا أذى إلا كفَّر الله به من خطاياه} كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك.
ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها، فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر وإنها في الحقيقة نعمة، والمصيبة الحقيقية هي مصيبة الدين.
ومنها: توفية أجلها وثوابها يوم الفقر والفاقة، وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما ناله عند الناس وبما له قبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض، فالعاقل يعد هذا ذخراً ولا يبطله بالانتقام الذي لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة.
المشهد العاشر: مشهد الأسوة وهو -أيضاً- مشهد شريف، فإن العاقل الذي يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه، فإنهم أشد الخلق امتحانا بالناس.
ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أممهم، أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله وخواص عباده الأمثل فالأمثل، ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء وأذى الجهال لهم.
وفي الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص-: {هل مر عليك يوم كان أشد من يومأحدقال عليه الصلاة والسلام: لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال -هذا في الطائف- فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، إلى قوله في آخر الحديث لما عرض عليه ملك الجبال ما عرض فقال له: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئا} .
المشهد الحادي عشر: مشهد التوحيد، وهو أجلّ المشاهد، وأرفعها فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له وإيثار مرضاته والأنس به واطمأن إليه، واتخذه ولياً دون من سواه بحيث فوض إليه أموره كلها ورضي به وبأخذيته، وفني بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه؛ ومن سواه فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البته فضلاً عما يشتغل قلبه وفكره وسره في تطلب الانتقام والمقابلة.
هذا بعض ما يحضرني وأرى أنه ينبغي أن يقال في هذه المناسبة.