أمر آخر يدعو إلى الحديث عن مثل هذا العلم الإمام وفي مثل هذا الموضوع: إن الحديث عن هؤلاء الأشخاص يضع الحق في نصابه، فهو معرفة لبعض قدرهم وجهادهم وبلائهم، وإذا كان الحديث عنهم لا ينفعهم، ولا يقدم ولا يؤخر بالنسبة لهم فإنه على الأقل يشعرهم بأن بذلهم يَلقى آذاناً صاغية، وأن جهادهم محل حفاوة الأمة وملء سمعها وبصرها.
ما بالك إذا شعر العالم بأن الأمة التي تحتشد له، وتستمع إليه، وتأكل كل وقته أو جل وقته، وتحاصره في كل لحظة بأسئلتها عبر الهاتف، أو أسئلتها المباشرة، أو طرقها على بابه، أو مراسلتها، أو اتصالاتها، أو موافاته بمشكلاتها.
ما بالك إذا شعر العالم أن هذه الأمة التي تحتشد حوله باستمرار لا تفعل ذلك إلا بقدر ما يخدم مصالحها الشخصية فحسب، ثم لا يعنيها بعد ذلك من أمره شيء أن يصح أو يمرض، يُكرم أو يُهان، يفرح أو يحزن؟! إنها كارثة أخرى أن نتخلى عن أولئك الجهابذة الذين ضحوا من أجلنا، ولو لم يكونوا ينتظرون منا شيئاً، لكن: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60] .
إننا نلحظ أهل البدع فنراهم يمنحون رؤساءهم تعظيماً يصل أحياناً إلى درجة القداسة كشيوخ الصوفية مثلاً، أو زعماء الرافضة وسواهم، تَربَّى أتباعهم على معاملتهم عبر طقوس عجيبة لم يطلبها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من أتباعهم، بل ولا يرضون منهم لو فعلوها.
فالمطلوب إذاً لأئمة أهل السنة قدراً معتدلاً من التعظيم، والإجلال اللائق الذي يحفظ لهم قدرهم ومكانتهم، ويربي الجيل على ترسُّم خطاهم.
إن الأمة التي لا حاضر لها لا مستقبل لها.
ونحن لا نعتقد أن الحديث عن رجلٍ كـ ابن باز يعني: اعتقاد العصمة له في كل ما يقول، أو يفعل، أو يأخذ أو يذر، ولا تقليده في كل اجتهاداته، ولا ارتهان الفكر والعقل في حدود ما وصل إليه.
لا؛ بل إن من الوفاء لرجل كـ ابن باز وأمثاله: أن نكون أوفياء للمبادئ التي يحملونها، والتي من أهمها نبذ التقليد ومحاربته وذمه، وتربية الجيل على الأخذ من المنبع الأول من الكتاب والسنة، كما قال أحمد: لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي وخذ من حيث أخذوا.
إننا نريد أن نقول للناس في الوقت الذي نثني فيه على هذا وذاك من الأئمة الأعلام: إن مخالفة أحدهم للآخر في مسألة، أو عشر، أو مائة لا يعني تنقصه، أو مخالفته في المنهج.
كلا.
ألم تر أن الواحد من العلماء قد يخالف صحابياً، أو تابعياً، أو إماماً متبوعاً من الأئمة الأربعة، أو العشرة في مسائل قليلة، أو كثيرة فلا يعني هذا شيئاً سوى الوفاء للدليل، ولسان الحال يقول: فلان عزيز والحق أعز منه.
إننا نحتاج أن نرسخ هذا الميزان أيضاً في نفوس الناشئة ليغنيهم عن تساؤلات كثيرة وإحراجات وقلق لا يهدأ إلا بتصحيح التصورات وتعديل النظرات.
فإن بعض الناس لا يفهمون إلا أحد أمرين: إما أن تكون صادقاً في ثنائك على فلان، وبناءً عليه ينبغي أن توافقه في كل شيء.
وإما أن تخالفه، فيكون معنى ذلك: أنك منابذ له في المنهج، مخالف له في الطريقة، مباعدٌ له في كل شيء.
وهذا خطأ عظيم.
بل عادة العلماء الراسخين في العلم أنهم قد يثنون على العالم بما هو أهله، ويطرونه، ويمدحونه، ويدعون له، ولا يمنعهم هذا أن يخالفوه في مسألة أو عشر أو مائة من المسائل التي هي موطن اجتهاد.