إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالسلام عليكم -أيها الأحبة الأبرار- ورحمة الله وبركاته.
نحن الآن في ليلة الجمعة الثامن من شهر صفر لسنة (1424) هـ.
لقد جئتم إلى هذا المكان المبارك -أيها الأحبة- على وقع الدمار الهائل الذي حل بالعراق وعاصمة الرشيد، جئتم والأسى يعصر قلوبكم، واليأس يجتاح النفوس، لكن لا يأس فالدهر دول، {لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] .
اليأس حرامٌ حرامٌ على قومٍ آمنوا بالله تعالى، وأن الله حق، وله الحكمة البالغة، والرحمة السابغة، وبيده تصريف الأمور، وإذا كان عمر الولايات المتحدة الأمريكية نحو مائتي سنة، فلنذكر أنها خاضت مع نفسها حرباً ضروساً حصدت أكثر من ستمائة وخمسين ألف قتيلٍ فحسب، فدعونا نهدئ أنفسنا وندغدغ عواطفنا بهذا الخبر الجميل.
قوات غازية تجتاح عدة ولايات أمريكية بما فيها واشنطن، وتقتحم البيت الأبيض، واختفاء الرئيس الأمريكي ونوابه ومساعديه وسط حالةٍ من الفزع والهول والذهول.
الثوار الغاضبون المحتجون على السياسة الأمريكية يحتلون الشوارع ويهتفون ضد الإدارة ويتهمونها بممارسة جرائم حربٍ وإبادة وبتضليل الشعب وبانتهاك القوانين ومصادرة الحقوق.
مجموعة من السجناء تقتحم السجن وتنضم إلى الثوار.
مدمنو مخدرات يرفعون لافتاتٍ تقول: كفى ترويعاً للشعب، كفى ترويعاً للآمنين.
محتجون يدمرون تمثال الحرية ويضعون عليه خرقة مكتوبٌ عليها: انتهى وقت الخداع، اكشفوا الأقنعة عن وجوهكم البشعة يا تجار النفط، الشعب يرفضكم ولن يختاركم بعد اليوم.
هل أنت في حلمٍ لذيذ؟ هذا الحلم اللذيذ المنبعث من عمق الخيال، هو انعكاسٌ لما يجري في عاصمة الرشيد اليوم، ولعله صورة من صور المستقبل.
لقد هجم عليَّ البارحة موجةٌ عارمة من الحزن والكآبة، ولا أظن أحداً من المسلمين بقي بمعزلٍ عنها، وهو يرى ويسمع سقوط مدينة الخلافة بأيدي علوج الروم.
يا دجلة الخير ما يغليك من حنقٍ يغلي فؤادي وما يشجيك يشجيني ما أن تزال سياط البغي ناقعةً في مائك الطهر بين الحين والحين ووالغاتٌ خيول البغي مصبحةً على القرى آمنةً والدهاقين أدري بأنكِ في حزنٍ وفي لغبٍ والناس حولك عدوا بالملايين يرون سود الرزايا في حقيقتها ويفزعون إلى حدسٍ وتخمين الوداع يا بغداد! يا بلد المنصور والرشيد والنعمان وأحمد والكرخي والجنيد وإسحاق ومطيع وحماد! يا منزل القادة والخلفاء، والمحدثين والفقهاء، والزهاد والأتقياء، والشعراء والظرفاء! يا مثابة العلم والتقى، وموئل المجد والغنى، يا دنياً فيها من كل شيءٍ شيء!! الوداع يا دار السلام! ويا موئل العربية! ويا قبة الإسلام! ويا منارة التاريخ! ويا منبر الحضارة! منذ أوائل الألف الخامس قبل الميلاد، تاريخٌ موغلٌ في القدم شهد هذا السهل - سهل الرافدين - قفزةً هامةً في التاريخ بالانتقال من القرى الزراعية إلى حياة المدن، ومر على هذا السهل زمنٌ كانت فيه شبكات القنوات معجزةً من معجزات الري في العالم، مرت عليه قرون وأجيال وأمم لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى: السومريون وهم من أقدم بناة الحضارة في التاريخ كله، ومن العراق انطلقت أول إمبراطورية معروفة في التاريخ، ثم جاء البابليون والآشوريون والكلدانيون وكان الفتح الإسلامي درة عقدٍ في هذا البلد الطيب، فحفظ للإسلام وده ووفاءه وبقاءه، وظلت العراق منطلقاً وعاصمةً للخلافة مئات السنين.
بنيت بغداد في عصر أبي جعفر المنصور؛ لتكون عاصمة الخلافة، وبلغت أوجها في عصر الرشيد، ولذلك كانت تسمى عاصمة الرشيد، كما تسمى دار السلام، والمدورة، والزوراء، وبغداد.