قد بين الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أن صلاح المجتمعات هو بقيامهم بهذا الركن الركين، وبهذا الأصل الأصيل، وأن فسادها هو بإخلالها بهذا الأمر، فقال الله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] فهذا هو سبب لعنهم أنهم عصوا واعتدوا وتركوا التناهي عن المنكر، وتركوا التآمر بالمعروف.
وهذا الأمر الذي حكاه الله عز وجل لنا عن خبر بني إسرائيل، إنما حكاه لنا لنعتبر به معشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فنحذر أن يصيبنا ما أصابهم، ولذلك يقول حذيفة رضي الله عنه وأرضاه: [[نعمة الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لهم المر ولكم الحلو]] أي: إن سلكتم ما سلكوا أصابكم ما أصابهم، حَذْوَا القُذَّةِ بالقُذَّةِ، وفي الحديث الصحيح أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال: [[يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: {إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب} ]] وهذا الحديث رواه أصحاب السنن، والإمام أحمد وغيرهم، وروي موقوفاً على أبي بكر رضي الله عنه ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رجح الأئمة كـ الدارقطني وغيره، ورجحوا الموقوف على أبي بكر.
وسواء كان الحديث موقوفاً عليه أو مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن دلائل القرآن والسنة تشهد لمعناه، ولعله مما لا يقال بالرأي، فهو بكل حال حديث عظيم معناه صحيح، {إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب} فإن المنكرات إذا فشت في المجتمع، وانتشرت ولم يغيرها الناس، صارت عرفاً سائداً، يستحي المصلحون من إنكاره وتغييره وينشأ عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير، حتى ربما دَاخَلَ كثيراً من الناس اليأس من إصلاحه، فتركوه وبدءوا في تغيير منكرات أخرى، وهذا مدعاة إلى فشو المنكرات وانتشارها، وإلى خمول الأمور المعروفة، واستحياء الناس من إظهارها، ولذلك بوب الإمام مالك رحمه الله في موطئه، على نحو هذا الحديث، بقوله: (باب عذاب العامة بعمل الخاصة) وروى فيه أثراً عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: كانوا يقولون، أي السلف من الصحابة والتابعين الذين تلقى عنهم عمر بن عبد العزيز،كانوا يقولون: [[إن المعصية إذا عملت سراً لم تضر إلا صاحبها، فإذا عملت جهراً ضرت الناس كلهم]] أو نحواً مما قال رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه.