مثله: إن بعض الناس لا يستطيعون العدل بين الكليات والجزئيات، فالدين كله دين، وفي حديث جبريل عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، وفي الأخير قال: {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم} فكل هذا دين، ولا نقول: إن في الدين شيء ينبغي إهماله، أو إغفاله، أو أنه لا قيمة له، أو قشر، كلا؛ لأن الدين كله دين وكله من عند الله.
ولذلك لو أن إنساناً -مثلاً- أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو أمراً متواتر الثبوت، ولو كان سنة من السنن كفر بذلك، إذا كان أمراً قطعي الثبوت، مثل أن ينكر -مثلاً- الأذان، أو أن ينكر سنة الفجر، ينكر أنها مشروعة؛ لأن هذه الأمور ثابتة مشروعيتها، ومتواترة، لا إشكال فيها، ولا خلاف فيها بين المسلمين أنها قطعية.
-إذاً- ليس في الدين أمر نقول: إنه لا قيمة له، لكن لا شك أن هناك أولويات، فمثلاً: البداءة بأمور العقيدة، هذا منهج ظاهر لا بد منه، كذلك تقديم الكليات عموماً على الجزئيات، فأنت حين ترى -مثلاً- إنساناً عنده مجموعة من الأخطاء أو النقائص، فمن الطبيعي أنك ستبدأ بالأكبر فالأكبر، فتبدأ بتعليمه الصلاة -مثلاً- قبل أن تبدأ بتعليمه الأذكار الأخرى، وتبدأ بنهيه عن الشرك الأكبر -إن كان موجوداً عنده- قبل أن تنهاه عن التدخين، أو عن أكل الربا.
هذا تدرج طبيعي وهو ثابت في الصحيحين من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذاً إلى اليمن قال له: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنياهم فترد على فقرائهم} .
إذاً: مسألة تقديم الأولويات: شريعة وسنة نبوية ثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
كثيراً ما يطيش الميزان في أيدي الشباب؛ بسبب ظروف محلية يواجهونها فتجد أن عنايتهم وتركيزهم يكون على جزئيات غفلوا بسببها عن الكليات، فأصبح الشاب -مثلاً- مشغولاً بمجموعة من السنن مثل موضوع تقصير الثوب، موضوع الصلاة في الثوب، موضوع جلسة الاستراحة، وموضوع تحريك الإصبع في التشهد، وعندك عشرات القضايا، وهذه القضايا أرجو ألا يفهم أننا نقلل من شأنها، فهي أمور وارد فيها نصوص، وينبغي أن يكون لنا فيها رأي، وينبغي أن تدرس، وتعلم، وتتعلم -أيضاً- ويعمل بها.
لكن ينبغي -أيضاً- ألا يشتغل بهذه الأشياء، ويغفل عما هو أهم منها، أذكر أنني اطلعت على أكثر من أربعة عشر بحثاً في موضوع كيفية تحريك الإصبع في التشهد، فهناك بحوث كثيرة، بعضها كتب مستقلة، وبعضها بحوث ضمن كتب، وبعضها بحوث من مجلات وغيرها، لكن هناك مسائل عويصة، نازلة بالمسلمين، وهم في أمس الحاجة إلى بحثها ومعرفة حكمها -أحياناً- قد لا تجد فيها ولا بحثاً واحداً.
إذاً لا بد من العدل في التوفيق بين الكليات والجزئيات، هناك من يشتغل بالجزئيات، ويغفل عن الكليات وهناك العكس، وهناك من يشتغل ببعض الكليات، ويقلل من شأن الجزئيات، فإذا حُدِّث في بعض السنن يقول والعياذ بالله: يا أخي هذه توافه، هذه قشور! وهذا خطر كبير على دين الإنسان؛ لأنه من الخطأ أن نستهين بأي أمر من الدين، ويجب أن نحترم كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في الدين شيء صغير، فالدين كله عظيم؛ لأنه من عند عظيم جل وعلا، وقد بلغه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأحياناً أضرب لبعض الإخوان مثلاً للجمع بين هذه الأمور: قرأت لأحد الدعاة منذ زمن ليس بالبعيد كلاماً يقول فيه: إنني أهتم بالكليات، والقضايا الكبرى، على حين يهتم غيري بالجزئيات والقشور، يقول -مثلاً-: أنا سلفي، ولذلك لما أنظر إلى شخصية عمر، أنظر فيها إلى شخصية عمر العادل، الذي نشر العدل بين الناس، أنظر فيها إلى شخصية عمر الخليفة الذي يتحمل المسئولية حتى يقول: [[لو عثرت بغلة بالعراق لشعرت أن الله سائلني عنها: لما لم تسو لها الطريق يا عمر؟]] ولذلك أنا أعتبر نفسي سلفياً -يعتبر نفسه سلفياً.
يقول هذا الداعية: في حين أنظر إلى غيري، فينظر إلى عمر الذي قصر ثوبه، وأطال لحيته، كل إنسان ينظر من زاوية معينة، وأقول تعليقاً على هذا: لماذا شطرنا شخصية عمر إلى نصفين؟ لماذا جعلنا من عمر: عمرين؟ عمر العادل، وعمر الملتزم بالسنة، وسلوك الإسلام في مظهره! هذا من الخطأ.
عمر نفسه رضي الله عنه لم يكن يؤمن بهذه القسمة الثنائية، وفي هذا قصة طريفة ومناسبة أذكرها، وقد رواها الحاكم وغيره وسندها صحيح، صححه جماعة من أهل العلم، كـ ابن تيمية وغيره، [[أن عقبة بن عامر رضي الله عنه لما فتحت دمشق ركب على البريد؛ ليبشر عمر، ويبشر المسلمين بهذا الفتح المبين، فركب يوم الجمعة، وظل أسبوعاً حتى وصل المدينة يوم الجمعة، فلما دخل على عمر، وبشره بالفتح، فرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً، ثم نظر عمر فوجد على عقبة خفين، فقال له: منذ متى لبستهما؟ قال: يوم الجمعة وظللت أمسح عليهما أسبوعاً، قال عمر: أصبت السنة]] .
إذاً: عمر رضي الله عنه لم يكن يشغله الاهتمام بالأمور الكبرى، مثل: إقرار شأن الإسلام، وتوسيع الفتوح، وإخضاع العالم لحكم الإسلام، لم يكن هذا الأمر يشغله عن قضية في نظر الناس: جزئية أو فرعية، وهي مسألة: المسح على الخفين، أو حكم يتعلق بها، وهو توقيت المسح، أو عدم توقيته، بطبيعة الحال إما أن يكون هذا رأي لـ عمر، أنه لا يرى التوقيت كما هو رأي جماعة من أهل العلم، أو يكون عمر يرى أنه يجوز ترك التوقيت في المسح على الخفين عند الحاجة إلى ذلك؛ حيث لا يتمكن الإنسان من النزول لخلع الخفين، وغسل قدميه.
هذه قضية فقهية، ليس المقصود أن نتحدث عنها -الآن- المهم: الفائدة.
والعبرة من هذه القصة: ألا نشطر شخصية عمر، بل ألا نشطر الإسلام إلى شطرين، فنجعل هناك فروع يهتم بها أناس، وأصول يهتم بها آخرون، أو كليات يهتم بها قوم، وجزئيات يهتم بها آخرون، فنكون جعلنا القرآن عضين، كلا، بل نحاول أن نأخذ ونحيط بالدين كله من جميع جوانبه؛ بحيث لا نترك مجالاً لأحد أن يتهمنا بأننا فرطنا في شيء، واهتممنا أو ضخمنا شيئاً على حساب شيء.
{وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] وتحزبوا على جزءٍ من الدين، فتجد طائفة منهم يهتمون بالإسلام السياسي -فقط- ولا يعنيهم غيره، لا يعنيهم إصلاح العقائد، ولا يعنيهم تصحيح أخلاق الناس، ولا يعنيهم بناء شخصيات إسلامية، ولا يعنيهم نشر العلم الشرعي.
وآخرون تجد أنهم يهتمون بجانب من الإسلام، وهو: الجانب العلمي البحت، فيتعلمون، ويعلمون الناس السنة، وكيف يصلي، لكن لا يهتمون بما وراء ذلك، ولا يعنيهم أمر الدعوة إلى الله جل وعلا، وربما يهمل كثير منهم التعبد الحقيقي، والسلوك، والتنسك، فتجد الواحد منهم جاف القلب، خامد العاطفة، رديء الإحساس.
وتجد فئة ثالثة: يهتمون بالعبادة، وقيام الليل، وكثرة الأذكار، ولكنهم يهملون العلم الشرعي الصحيح، ويهملون النزول بالإسلام إلى واقع الحياة، وتحزبت كل طائفة على جزءٍ من الدين، فما هم عليه جزء من الحق، لكن ليس الحق كله، فمن العدل أن يأخذ الإنسان هذه الأشياء -كلها-.