كثيراً ما يقف الضالون في وجه الدعاة، فيقولون لهم: إنما تدعون إليه أمر لا يمكن أن يتحقق في الواقع، أنتم تدعون إلى أمور قد تعداها الزمن، ونسيها الناس، محالٌ أن يعود المجتمع إلى ما كان عليه، ولكن ينبغي أن ترضوا بما هو دون ذلك، أو ينبغي أن تعيدوا النظر في بعض آرائكم، فقد تجد من الدعاة من يستجيب لهذا المنطق، فربما بدأ يفكر مرة أخرى في فهمه للإسلام.
الربا اليوم يضرب أطنابه بين الناس، ويمد رواقه، وقل من يسلم منه، حتى تحققت النبوءة التي وردت في حديثٍ رواه الإمام أحمد في مسنده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يأتي على الناس زمانٌ من لم يأكل الربا، أصابه من غباره} وهذا الحديث وإن كان فيه مقال، إلا أنه ورد في صحيح البخاري، ما يشهد له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي المرء ما أكل من حلال أم من حرام} .
فهذا الربا الذي استقر في نفوس كثير من الناس، وفي جيوبهم، وفي أموالهم، ومؤسساتهم، بدلاً من أن يسعى الداعية للقضاء عليه، وإقناع الناس بتحريمه يأتيه الذين لا يوقنون فيحاولون أن يستخفوه به ليعيد النظر في موضوع صورة من صور الربا، وأن هذه قد لا تكون من الربا؛ ولذلك أصبحنا نسمع من يحاول أن يحلل بعض أصناف الربا الصريح الذي لا كلام فيه، ولا لف، ولا مداورة، لكن على سبيل الاستجابة لاستخفاف الذين لا يوقنون.
كذلك -أحياناً- يأتي بعض الناس إلى الداعية، فيقولون له: إنك تبذل جهود جبارة، وتتعب، وتسهر الليل، وتكد في النهار، وتواصل الجهود، لكن النهاية والنتيجة: قليلة، فأنت ترى الناس ينفضون من حولك، وترى وسائل الهدم والتخريب قد استحوذت على الكثيرين منهم، فلماذا لا تنعزل وتترك هذا الميدان، فربما جاء الوقت التي تشرع فيه العزلة؟! وهذا المنطق -أيضاً- قد يؤثر في نفوس كثير من الدعاة، خاصة المبتدئين الذين لم يتعودوا على تحمل عقبات الطريق، فهنا يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن خباب بن الأرت، قال: {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا يا رسول الله: ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد احمر وجهه، ثم قال: إن من كان قبلكم يؤتى بالواحد منهم فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ويشق إلى نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه من عصب لا يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون} .
إذاً: العجلة في جني ثمار الدعوة ونتائجها لا تتناسب مع الصبر الذي يجب أن يتحلى به الداعية، أحياناً يكون الداعية في موقع من المواقع، يجاهد في مكان من الأمكنة في رد المنكرات، وفي التقليل منها، وفي نشر الدعوة، ويحدث له خيرٌ كثير، لكن لا يحس هو بهذا الخير الذي يقع؛ لأن الخير يقع تدريجياً، فلا يشعر به، كما أن الواحد منا حين يكون له ولد في بيته -طفله- يراه صباحاً ومساء، فهذا الطفل يكبر، لكن الأب لا يحس بنموه لأنه يراه باستمرار، والنمو تدريجي فلا يحس به الأب، كذلك الداعية -أيضاً- قد يكون في موقع له تأثير كبير، لكن لا يحس به، فلو تخلى عن هذا الموقع لظهر أثره، وكم من داعية تخلى عن موقعه ظاناً أنه ليس له أثر، فلما تخلى بان فقده، فكان شأنه كشأن الكسعي الذي يضرب به المثل في الندم، كما يقول الشاعر: ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار فـ الكسعي، كان يصنع السهام -القسي- فيضرب بها، وصار يضرب في الليل، وظن أنه لم يصب، فكسر القوس الذي صنع، فلما أصبح ذهب فنظر، فوجد أنها قد أصابت الموضع الذي يريد! فندم ندماً شديداً على كسر هذا القوس.
فعلى الداعية ألا يستعجل النتائج والثمرات؛ بل عليه أن يسعى، ويعتمد على الله عز وجل، ويدرك أنه بمنطق التجربة المقطوع بها، التي لا يشك فيها اثنان ممن لهم معرفة، وبصر بالواقع، أن أي جهد صحيح يبذل اليوم في الأمة الإسلامية، فهو جهد مثمر، وقد جرب الكثير من الناس ذلك.
فمن يستطيع أن يقول: إن هناك داعية دعا فلم يستجاب له، أو عالم جلس للتعليم فلم يقعد إليه أحد، أو ناصح نصح فلم ينتصح أحد بأمره ونهيه، أبداً لا يوجد هذا، بل كل داع يجد من يستجيبون له.
إذاً لم تصل الأحوال إلى حد ما أخبر عنه الرسول عليه السلام: {شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه} على مستوى الأمة كلها، هذا قد يوجد بالنسبة لأفراد، لكن الأمة كلها لا يزال فيها خير كثير، ولا يزال عند الناس استجابة، وقبول للدعوة، وسماع لصوت الناصح؛ بل إننا نجد في الأمم الكافرة اليوم في أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وغيرها من بلاد العالم الكافر، أن من يحمل لواء الدعوة إلى الله تعالى، يجد من يستجيب له من أولئك الكفار.
إذاً الدعوة تجد آذاناً صاغية لكن: (لكنكم تستعجلون) -كما قال صلى الله عليه وسلم-.