إخواني الكرام إنَّ صدقنا في اعتقاد الإسلام، واعتقاد الحق فيه، هو الوسيلة الأولى لقبول الناس لديننا، فالإنسان الذي يمثل على الناس، لا يقبل الناس منه هذا التمثيل، بمعنى أن يكون مثل الممثل في المسرح يظهر للناس شيء، لكن حقيقته أمر آخر، فمثل هذا الإنسان سرعان ما ينكشف أمره للناس، ولا يتقبلون منه.
ولذلك يقال: أن بعض السلف -نقلت عن أكثر من واحد من العلماء- كان إذا تحدث، ووعظ يتجمع الناس عنده، وتنهال الدموع، ويسمع البكاء والنحيب، وآخرون أقوى منه حجة، وأقوى منه بياناً، وأوسع منه علماً، لكن إذا تحدثوا لم يتأثر بكلامهم أحد.
فقال له ولده: يا أبتِ، مالك إذا تحدثت بكى الناس وانتحبوا، وإذا تحدث غيرك لم يحرك للناس شعوراً، فقال يا بني: لا تستوي النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة، فالمرأة التي تبكي لموت ابنها، أو زوجها، تبكي بحرقة وحزن، فتُبكي من يسمعها، لكن إذا مات إنسان، ولم يوجد من يبكي له، فاستأجر أقاربه بالأجرة أناس يبكون الساعة بكذا، من يسمع هذا البكاء؟ لا يلتفت إليهم؛ بل يضحك عليهم، لأنه يعلم أن المسألة تمثيل، وأن هؤلاء المتباكيات لسن حزينات، وإنما يقمن بالبكاء بالنيابة عن غيرهن، فلا يتأثروا بهن.
إذاً: صدقك في حمل الدعوة هو الوسيلة الأولى لتقبل الناس ما عندك، وليس المهم في الدعوة هو الألفاظ المنمقة، والعبارات المعسولة المحبوكة، والألفاظ الأدبية، وإن كانت هذه الأشياء كلها مطلوبة في الدعوة، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الناس بأبلغ بيان، وكان أفصح من نطق بالضاد عليه صلوات الله وسلامه، ولكن أهم من ذلك كله، وقبل ذلك كله، لا بد أن يكون حديث الإنسان منطلقاً من قلب صادق.
كذلك الصدق في الأقوال: فإن الدعاة أحوج ما يكونون في هذا الزمن لأن يكونوا صادقين في أقوالهم وأعمالهم، وذلك لأنكم تعرفون -أيها الإخوة- أن الداعية اليوم يواجه حرباً من أطراف شتى؛ يواجه حرباً من الأبعدين -من أعداء الإسلام- وهذه حرب ضارية وشرسة وضروس لا يهدأ لها غوار، ويواجه أحياناً حرباً ممن يخالفونه في المنهج، وفي الطريقة، وفي أسلوب الدعوة حتى من الذين يذكرون من الدعاة إلى الإسلام.
وربما يملك هؤلاء وأولئك من وسائل التشهير بهذا الداعية الشيء الكثير، فإذا وقع الداعية في مزلق كذب في القول، أو في الفعل، أو تورية يفهم الناس منها خلاف ما يريد، أو ما أشبه ذلك، فإنه حينئذ يكون فتح الباب على نفسه ليقول الناس فيه ما يشاءون؛ ولذلك فالداعية بأمس الحاجة إلى أن يكون صادقاً قدر الإمكان، ولا يضيره أن يبالغ في الصدق، حتى يفوت السبيل على من يريدون أن يسيئوا إليه، أو يفهموا أقواله للناس وأفعاله على غير ما هي عليه.