أولاً: الصدق في حمل الدين: بمعنى أن يكون اعتقاد الإنسان في دينه وقيامه بدعوته عن صدق، وإخلاص، واعتقاد صحيح، وليس عن نفاق، أو مجاملة لمن حوله؛ ولذلك في القرآن الكريم تجد أن الصدق -أحياناً- يكون في مقابل النفاق، كما في قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24] فالإنسان الصادق: هو الذي يحمل الدين بصدق، يكون الدين عقيدة في قلبه، مستترة تظهر آثارها في جوارحه، هذا هو اللون الأول من الصدق، وهو بمعنى الإخلاص في حمل الدين.
واللون الثاني من الصدق، هو: الصدق في الأقوال: بمعنى أن يتجنب الإنسان الكذب، أو ما ينافي الصدق، وقد يقول قائل: إن كثيراً من المسلمين فضلاً عن الدعاة يستعيبون الكذب، ويعتبرونه خطيئة، حتى لو لم يكن ورد النهي عنه، فكيف وقد وردت النصوص في التحذير منه.
فأقول: هذا صحيح، لكننا نجد أن كثيراً من الدعاة، نظراً لمعاناتهم لأمور الدعوة، يتوسعون في أمور لا تتناسب مع الصدق، وذلك مثل كثرة التورية، وكثرة التأول والتأويل في الألفاظ والأقوال، فتجد الداعية يستخدم مع الناس أسلوباً ليس كذباً، لكن هم يفهمون منه خلاف ما يريد، وهو يقصد ذلك، فقد يكتشف الناس يوماً من الأيام، أن هذا الأمر الذي فهموه من هذا الداعية خلاف الواقع، فيتهمونه بأنه كذاب.
ولا شك أن الإنسان إذا عود نفسه على كثرة التورية، بمعنى أن يقول كلاماً يحتمل أكثر من معنى، فهو يقصد معنى، والناس يفهمون منه معنىً آخر، فإن هذا مدرج يجر الإنسان إلى الوقوع في الكذب، فالداعية ينبغي أن يحرص على أن يكون واضحاً في أقواله.
الصدق في الأعمال: بمعنى أن تكون أعمال الإنسان واضحة، بعيدة عن أن يتلبس بها شيءٌ من الزور، فلا يعمل عملاً إلا لوجه الله، ويعمل الأعمال التي ترضي الله، ويتجنب أن يعمل عملاً غير واضح ولا ظاهر.
على سبيل المثال: نحن نعلم جميعاً أن القصة المعروفة -وإن كان في سندها بعض المقال، لكن لا بأس من إيرادها- وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، أهدر دم مجموعة من الناس الذين كانوا يؤذونه صلى الله عليه وسلم، ويقولون الشعر في ذمه وعيبه، أو كانت لهم جرائم أخرى، كـ عبد الله بن خطل وغيره، وكان ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان أخاً لـ عثمان بن عفان لأمه.
فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بـ عبد الله بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنه، وقد وضعه خلف ظهره، وهو يقول: يا رسول الله هذا عبد الله بن سعد، وقد جاء تائباً فأمنّه على دمه، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالها عثمان: مرة أخرى، فسكت، فقالها: مرة ثالثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {هو آمن} .
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك لأصحابه: {ألا رجلٌ منكم حين رأيتموني سكت قام إليه فعلا عليه بالسيف فقتله} لماذا لم تقتلوه لما رأيتموني سكت فلم أؤمنه؟ قالوا يا رسول الله: هلاّ أومأت إلينا؟ -لو أومأت إلينا بطرف عينك لقام إليه أحدنا فقتله، فمجرد إشارة بعينك تكفي في أن نقوم إليه فنقتله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين} .
لاحظوا! مدى الصدق الذي تميز به النبي صلى الله عليه وسلم؛ بحيث أنه لما اشتهر هذا الأمر عنه، وعرف به لدى القاصي والداني لم يستطع المشركون أن يتهموه بالكذب صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ساحر، وقالوا: شاعر، وقالوا: مجنون، لكن لم يستطيعوا أن يصرحوا بكذبه، إلا بعد ما أعيتهم الحيل، وإلا ففي البداية كانوا يعلمون أن الناس لن يصدقوهم في هذا الأمر، وهذا الذي وقع فعلاً رغم أنهم اتهموه فيما بعد بالكذب، فإن الناس رفضوا هذا الكلام.
ولذلك روى الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه اليهودي الذي أسلم، قال: [[لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، سمعت الناس يقولون: قد جاء محمد، قد جاء محمد، وانجفل الناس إليه، -أي: ذهبوا إليه سراعاً- قال: فكنت فيمن ذهب إليه، فلما استثبت في وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب]] .
لاحظوا! قال: (لما استثبت في وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب) بمجرد نظرة ألقاها عبد الله بن سلام -وهو يهودي آنذاك- على وجه النبي صلى الله عليه وسلم أدرك أن صاحب هذا الوجه ليس كذاباً، قال: فسمعته يقول: {يا أيها الناس أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام} .
انظر! كيف تحول الصدق؟ أولاً في القلب، ثم في القول، ثم في الجوارح، حتى ظهر على محيا وجه النبي صلى الله عليه وسلم، أنه رجل صادق في أقواله وأفعاله، فعرف هذا الرجل الذي كان يهودياً، أن وجه النبي صلى الله عليه وسلم ليس بوجه كذاب.