بعد ذلك كله أظهره الله وهدى ووفق من اتبعه ومن نصره, ولما أظهره الله ومكن له في البلاد شرع له الجهاد في سبيل الله, فجاهد في الله تعالى حق جهاده حتى نصره الله، وأظهر له الدين الذي أرسله به, فأنزل عليه في آخر حياته قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] , {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [الفتح:28] , فصدق الله وعده, حيث أظهر هذا الدين ومكن له.
وكان من أسباب ظهوره الجهاد؛ حيث أنه صلى الله عليه وسلم بذل جهداً، وصحابته الذين أخلصوا في اتباعه بذلوا جهداً.
إذاً فالجهاد الذي قاموا به هو أنهم أجهدوا أنفسهم, وبذلوا وسعهم, وبذلوا أوقاتهم, وأنفقوا ما يملكونه, وآثروا سبيل الله على أهوائهم, وعلى شهواتهم, فكان ذلك سبباً لنصرهم، فحقق الله لهم النصر لما نصروه، وقال الله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] , ومعلوم أنهم ابتلوا بهذا الجهاد ليظهر بذلك صبرهم وجلدهم وقوتهم وليظهر بذلك إيثارهم للحياة الأخروية, والنعيم الأخروي على شهواتهم الدنيوية, وعلى متاع الدنيا, وما ذاك إلا أنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه, صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وآمنوا برسالته, وحققوا اتباعه, وعلموا أن ما جاء به كله حق, وأنه صادق مصدوق, وأن وعده صدق, فلما آمنوا بذلك رخُصت عندهم أنفسهم, ورخصت عندهم شهواتهم وأموالهم, وأولادهم, وعرفوا أن وعد الله تعالى حق فبذلوا كل ما في وسعهم, فأظهر الله بهم الدين.
وأنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] , فحقق الله هذا الوعد ولكن بعد أن حققوا ما طلب منهم، حققوا الإيمان, وصدقوا فيه, وحققوا العمل الصالح, وحققوا العبادة, واجتنبوا الشرك, واجتنبوا المعاصي, وكذلك أجهدوا أنفسهم وجاهدوا في سبيل الله.