إرسال الرسالات حجة على العالمين

الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .

أما بعد: أيها الإخوة: قبل أن أدخل فى الموضوع الذى أحب أن أتحدث به في هذه الليلة المباركة, أحب أن أشير إلى مسألة مهمة, وهي -أيضاً- معروفة، ولكن من قبيل التذكير، فأقول: إن الله تبارك وتعالى إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل من أجل أمر واحد، وهو إقامة الحجة على العالمين, قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] , إذاً فكل ما نزل من الكتب وكل من بعث من الرسل, إنما كان من أجل إقامة الحجة علينا نحن؛ كما يقوم ذلك بإقامة الحجة على غيرنا من الأجيال والقرون الغابرة أو اللاحقة, وإذا كان ذلك كذلك، فيجب علينا أن نعرف أن من يعرف ليس كمن لا يعرف, فمن يعلم ببعثة الرسل, ويدري بإنزال الكتب, ليس كمن لا يدري عن ذلك شيئاً.

ولذلك قال الله تبارك وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] يعني ومن بلغه هذا القرآن فهو منذر لهم، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا القرآن: {والقرآن حجة لك أو عليك} , فالقرآن حجة ولابد, كل من سمع القرآن فالقرآن حجة بالنسبة له, لكن إما أن يكون هذا القرآن حجة له، وذلك لمن عمل وأخذ به وامتثل أوامره واجتنب نواهيه, وإما أن يكون حجة عليه, وهو من أعرض عن هذا القرآن.

ومن العجيب -أيها المسلمون- أننا نتلو هذا القرآن بكرة وعشية, ونسمع من يقرأه بكرة وعشية ثم لا نتأثر من هذا القرآن فى بعض الأحيان, وربما تجد الإنسان قد يتأثر بأقوال الناس أكثر مما يتأثر بقول الخالق جل وعلا.

وأضرب لذلك مثلاً واضحاً.

تجد هذه الآيات التي تتلى، والتي يقول الله عز وجل عنها: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] , هذه الآيات التى لو أنزلت على جبل لتصدع منها, تجد الإنسان منا قد يسمعها فلا يتأثر، ثم يسمع داعياً يدعو في خروجه أو غيره؛ أو واعظاً يعظه فيتأثر وقد يبكي ويلين قلبه, فنقول: هذا دليل على ضعف القلوب، وخلل الإيمان فيها، وإلا فإن الله عز وجل لما ذكر كتابه قال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] , وفي الآية الأخرى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] , يعني إذا لم تتأثر أيها الإنسان بهذا القرآن وتستجيب له, فكيف تتأثر وتستجيب بغيره؟! فالقرآن كلام الله عز وجل في غاية الفصاحة, والبلاغة, والقوة, والإعجاز, والتأثير, حتى أن من يقرأون هذا القرآن بقلوب حية يتأثرون منه تأثراً عظيماً.

وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعرفون بأسه وقوته وشدته في الحق, ومع ذلك كان يقرأ الآية من القرآن فى صلاة الفجر وهو يصلى بالناس فيسمع نشيجه وبكاؤه من وراء الصفوف, وكان يقرأ الآية من القرآن فيمكث فى بيته مريضاً يعالج أياماً طويلة.

وقد حدثنا بعض الثقات أنه إلى وقت قريب كان هناك بعض الصالحين إذا سمع الإمام يقرأ في صلاة الفجر بعض الآيات يتأثر بها ويسقط مغشياً عليه, حتى يظن أن به مساً من جنون وما به ذلك، وإنما غلب الخوف على قلبه, ولست بهذا الأمر الذي أشرت إليه أذكر بعض ما يأتي في كتب الصوفية وغيرهم من أن فلاناً صعق صعقة فمات وغير ذلك.

فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يسمعون هذا القرآن ولا يصعقون -وهم أكثر الناس تأثراً به- لقوة قلوبهم، أما أولئك القوم إن صح عنهم ما يروى فذلك لضعف قلوبهم وقله تحملها صارت إذا سمعت المواعظ تأثرت حتى يغلب عليها الخوف فيصعق الواحد منهم أو يغشى عليه أو ما أشبه ذلك.

المقصود أن كثيراً من الصالحين إذا سمعوا هذا القرآن تأثروا به واستجابوا له لأنه كلام الله تبارك وتعالى.

بل إني أحدثكم عن رجل ليس منا نحن العرب, ولا يعرف لغة العرب, وإنما هو من جنس آخر وقد ذكر بعض الشيوخ أنه اجتمع معهم فى مجلس -وكان هذا الشيخ قارئاً للقرآن- فحضر وقت صلاة العشاء قال فقام الشيخ يصلى بهؤلاء القوم ويقرأ القرآن بصوت ندي مؤثر, يقول: فلما انتهينا من الصلاة كان هذا الرجل غير العربي غير المسلم جالس ولم يصلِّ معنا, فلما انتهينا من الصلاة جئت وجلست إلى جنبه، يقول: فوجدت معه المناديل ووجدته يمسح الدموع عن عينيه, فتعجبت لذلك! رجل كبير السن يبكى كما يبكى الأطفال, يقول: فأعدت له شيئاً من هدوئه ثم التفت إليه وقلت له: يا أخي ما شأنك! لم تبك؟ قال: إنني لا أدرى لماذا أبكي, لأنني لست بعربي, ولا أعرف اللغة العربية، ولكنى أشهد أن الكلام الذى سمعته منك قبل قليل -يعني وهم يصلون- أنني أحسست بقلبي يتحرك لهذا الكلام, ويتأثر منه حتى كاد قلبى أن يطير, من عظمة ما أسمع مع أنني لا أعرف ماذا تقول, ولا أفهم المعنى, قال: ثم شرح له ودعاه إلى الإسلام فهداه الله تبارك وتعالى وأسلم.

فهذا القرآن -أيها الإخوة- هو أعظم الحديث، والقرآن كما قلنا هو حجة للإنسان, فكل ما تسمع من آية لا تظن أيها الأخ أنك سمعت الآية وانتهى الأمر, هذه الآية هي إما حجة لك أو عليك, كل ما تسمعه من القرآن أو من غيره من المواعظ فهي حجة لك أو عليك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015