بلا شك أن أغلى ما يملكه الإنسان روحه التي بين جنبيه، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كريماً في بذل نفسه ومهجته وروحه في ذات الله عز وجل، حتى إنه أُوذي في الله ما لم يؤذَ أحد، حتى إن زعماء قريش أتوه صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساجدٌ أمام الكعبة -في هذا المكان الطاهر المقدس، الذي تأمن فيه حتى الحيوانات- فذهبوا إلى جزور قد ذبحت بالأمس، فأخذوا سلاها ووضعوه على ظهره صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي، فلم يرفع رأسه، حتى ذهب أحدهم إلى بنته فاطمة وأخبرها الخبر، فجاءت وأزالت السلا عن ظهر أبيها عليه الصلاة والسلام، وهي تسبهم وتبكي، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لها: {اصبري يا بنية فإن الله مانع أباك} ثم قام صلى الله عليه وآله وسلم واستقبل الكعبة وقال: {اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بـ عتبة بن ربيعة، وشيبة، والوليد، وفلان وفلان} وذكر سبعة، قال الراوي: فلقد رأيتهم والله صرعى في القليب -قليب بدر- ذبحوا في معركة بدر كما تذبح الشياه، ثم جروا بعدما انتفخت جثثهم إلى القليب وألقوا فيه، وأتبعوا لعنة، ويوم القيامة هم من المقبوحين.
وضُرب صلى الله عليه وآله وسلم في عرقوبيه حتى سال الدم من ورائه، وشج وجهه صلى الله عليه وآله وسلم، وكسرت رباعيته -سنه- في معركة أحد، فكان يقول: {كيف يفلح قومٌ شجوا نبيهم فأنزل الله تعالى قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] } بل أشد من ذلك وأعظم أنه عرض نفسه صلى الله عليه وآله وسلم للموت في سبيل الله، وكان يطلب الموت مظانه، حتى إنه قال: {والله لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} وفي إحدى المعارك ودّع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه الذين استشهدوا في تلك المعركة مضرجين بدمائهم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشهدهم وجثثهم وقد صبغت بهذا اللون الأحمر من الدم، تمنى أن يكون نال مثل مصيرهم وقتل في تلك المعركة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: {والله لوددت أني غدرت مع أصحابي بحصن الجبل} أي: تمنيت أني قتلت كما قتلوا، إعلاناً أن هذا الجسد وقف لله تعالى، عليه (ختم الوقفية) فلا يصرف إلا في مرضاة الله؛ لهذا لا غرابة أن يقول الصحابة رضي الله عنهم: [[كنا إذا احمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم]] .
وفي يوم من الأيام أصابهم في المدينة فزع وسمعوا أصواتاً فتوقعوا أن هناك هجوماً مباغتاً مفاجئاً على المدينة، فخرج الناس الشجعان والأبطال الأشاوس، خرجوا بعدما استعدوا بلأمتهم وركبوا خيولهم، فلما خرجوا خارج المدينة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاقيهم راجعاً، وقد أتى على فرسٍ جوادٍ قد رجع واطمأن من الأمر، وقال: {ما رأينا من فزع، وإن وجدناه لبحراً} هذا الفرس الذي عليه الصلاة والسلام كالبحر يهتز ويسرع ويعدو براكبه: {وما هناك من فزع فلن تراعوا فعودوا إلى بيوتكم} فعادوا فسبقهم صلى الله عليه وسلم إلى الاطمئنان على وضع المدينة.
لكن أغرب وأعجب من ذلك ما حصل في معركة حنين فقد ذهب المسلمون وعددهم اثنا عشر ألفاً، في عماية الصبح والليل والظلام، وقد لقيتهم قبيلة بني نصر وهوازن وهم من العرب الذين يملكون قوة وقدرة في الرماية عجيبة، وقد استعدوا للمسلمين، فلما نزل المسلمون في الوادي، لقيتهم هوازن بسيل من السهام، فضربت المسلمين ضربة مباغتة ومفاجئة، ففروا كلهم - الإثنا عشر ألفاً- انهزموا وهربوا، أما محمد عليه الصلاة والسلام فظل ثابتاً في موقعه كأنه جبل لا يتزحزح، ولم يثبت معه إلا أربعة فقط هم العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا عباس ناد أصحاب الشجرة، فناداهم العباس فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وظلوا يقاتلون دونه، فثبت صلى الله عليه وآله وسلم يوم فر الأبطال الشجعان، وكان لا يتزحزح ولا يتراجع ولا يتأخر إلى الوراء أبداً، بل يهجم على الموت فيفر منه، وما ذلك إلا لإيمانه المطلق بأن الأعمار والآجال بيد الله: {وأن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} ولهذا ربى وعلم وأعدَّ أصحابه على الشجاعة.
فـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه نموذج من الشجعان، خرج إليه في معركة خيبر رجل من اليهود يقال له: مرحب، كأنه قطعة من الموت وهو يرتجز والسيف في يده يهزه ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب أطعن أحياناً وحيناً أضرب إن حماي لحمي لا يقرب فخرج إليه علي بن أبي طالب حين تأخر الأبطال كلهم وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره نكيلكم بالصاع كيل السندره (والحيدرة هو الأسد) فتوجه إليه وقطعه بالسيف نصفين، وكان يقول وهو في المعركة رضي الله عنه: أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا قُدِّر أم يوم قدر يوم لا قُدِّر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر انظر كيف هذا الكلام المنطقي والسليم، يقول: لماذا أهرب من المعركة، أأهرب من المعركة لأن أجلي مكتوب فيها؟ إذا كان أجلي مكتوباً فلن ينفعني الفرار، قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [الأحزاب:16] أم أهرب من المعركة وأنا أعلم أن أجلي غير مكتوب فيها، إذاً فلن أموت وأجلي لم يأت بعد، فلا معنى للفرار أبداً، وهذا لون من أرقى أنواع الشجاعة والجود! إنه الجود بالنفس! قال الشاعر: يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود واسأل نفسك يا أخي الكريم وأنت المسلم! ما الذي يمنعك من الصبر والشجاعة في سبيل الله، الآن القضية ليست قضية معركة دامية يدعى المسلم إلى نزولها، بل القضية قضية معركة الكلمة؛ كلمة الحق، ما الذي يمنع المسلم من أن يقول كلمة الحق ويجهر بها؟! وما هو الذي جعل الكلمة تتلجلج في أفواه الناس؟! وما هو الذي زرع الرعب والخوف في قلوبهم؟! حتى إنهم إذا اجتمع منهم أربعة أو خمسة؛ ولو كانوا في مجلس فقال أحدهم كلمة الحق قال له الآخر: يا فلان! اسكت فإن للجدران آذاناً، ما هو الذي جعل الرعب يفتك بقلوبنا؟! إنه حب الحياة! وقد قال الشاعر: يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول أما لو علم الإنسان أن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر فلن يكون في فمه ماء، بل سيكون قائلاً بالحق لا يخشى في الله لومة لائم، ولن يقدم على هذا من أجل أحد، ولن يؤخر -أيضاً- من أجل أحد، وقد قال: الإمام ابن حزم وهو من الشجعان الصرحاء في الحق: قالوا: تحفظ فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محن فقلت هل عيبهم لي غير أني لا أدين بالدجل إذ في دجلهم فتن وأنني مولع بالحق لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهن دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من غيظه منهم له كفن