أيضاً من الأخطاء التي تقع: أن الخلاف في بعض المسائل الفرعية قد يضخم عند البعض إلى خلاف جوهري وأصولي، فبعض الناس قد يحول الخلاف في مسألة فرعية إلى خلاف جوهري وأصولي، ويوالي ويعادي فيه، بل وربما ضلل وفسق وبدع، بل وربما وقع في التكفير أحياناً، والبراءة من فلان لأنه يقول بهذه المسألة.
ولذلك ربما تجد فرقاً كثيرة اجتمعت على أقوال جزئية وفرعيات، وهذا من الضلال والانحراف في فهم الخلاف.
وقد لقيت يوماً فئة من الناس كانوا يكفرون من يخالفهم في المسائل الفرعية الفقهية، ويحرمون الصلاة خلفه ومعاملته، وقبول شهادته، مع أن الخلاف ليس في أصول اعتقاديه، إنما هو في مسائل فقهية، وسلف هذه الأمة اختلفوا كما ذكرت، ولذلك لا تكاد تجد مسألة من المسائل المشهورة عند الفقهاء، إلا ويقول: هذا مذهب أبي بكر، وابن مسعود، وهذا مذهب عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وفلان، فالخلاف في الفقه موجود من عهد الصحابة كما بينت قبل قليل.
ولا يجوز أن يتحول الخلاف في مسألة من المسائل الفقهية إلى ميدان للخصومة، والمنافرة والمباغضة والهجر والمفاصلة والشتم والسب والتضليل والتبديع والتفسيق والتكفير أحياناً، فهذا كله لا يجوز، فالخلاف الفقهي ليس فيه هدى وضلال، وحق وباطل، ما دامت المسألة في إطار أمور لا تصل إلى درجة القضايا القطعية، وإنما هي قضايا اجتهادية اختلفت فيها الأمة قديماً وحديثاً، إنما فيها راجح ومرجوح.
ولا يوجد مانع أن أقول: هذا القول راجح، وذاك القول مرجوح، وفي مقابل ذلك قد يأتي آخر ويقول: والعكس، هذا القول مرجوح، وذاك القول راجح، وكل إنسان يقول ما يعتقد في هذه المسألة، وفق ما أدى إليه اجتهاده، على ضوء النصوص الشرعية.
فالمسألة فيها راجح ومرجوح، وإذا كان الدليل قوياً فقد أقول: هذا هو القول الصحيح، وأقف عند هذا الحد، أما كون القضية تتحول إلى تضليل فهذا نوع من غياب الفقه الصحيح، ولذلك نجد أن العلماء السابقين كانوا يتعاملون مع الخلاف الفقهي في هذا الإطار، وأحياناً يلتقي عالمان للمناظرة في المسألة، فلا يتفرقا حتى يأخذ كل منهما بقول الآخر، وهذا طريف، وهو يدل على أن العلماء السابقين كانوا متجردين للحق.
وأذكر أن إسحاق بن راهويه وهو إمام وفقيه من فقهاء المحدثين، التقى بالإمام الشافعي في مكة، فتناظرا حول مسائل عديدة، منها مسألة جلود الميتة وحكمها، ومنها مسألة كراء بيوت مكة وبيعها، والطريف في الأمر أنهما لما تناظرا في مسألة جلود الميتة كان بعد المناظرة رجع الشافعي إلى قول إسحاق، ورجع إسحاق إلى قول الشافعي، كل واحد منهم أعجبته حجة الآخر فقال بها، وهذا دليل على التجرد للحق.
ومثل ذلك كثير فلا بأس من المناقشة والمناظرة، وأن أقول: هذا راجح وهذا مرجوح، أو إذا قوي الدليل عندي أقول: هذا الصحيح، وإن كنت أوثر من وجهة نظري الشخصية الضعيفة، أن الإنسان يستخدم دائماً العبارات التي لا تدل على الجزم والقطع فيما ترجح لديه، إلا في مسائل محدودة جداً، فكلما أمكن أن طالب العلم يعرض القول الذي ترجح بأسلوب لا يغض من قيمة القول الآخر، ولا يدل على أن الرجحان عنده قوي جداً، كان هذا أولى وأقوى وأحسن في التربية، المهم أنه لا يجوز أن نحول الخلاف في مسألة فرعية إلى خلاف جوهري وأصولي، ونبني عليه التفرق.