السبب الثالث: وهو بيت القصيد، وهو ما يعانيه الإنسان في قلبه حال مواقعة الأمور كالجهاد أو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر, وقد تسأل ما معنى ذلك؟ أقول لك باختصار: إن الإنسان إذا قال: من الورع أنني لا أتعلم ولا أعلم, ولا أتكلم ولا أعظ, ولا أؤم الناس في المسجد, ولا أقرأ القرآن عليهم, لماذا؟! لأنه داخل نفسه بعض الأشياء، فترك هذه الأمور وجلس في بيته, حينئذٍ مدافعة الرياء غير موجودة عنده, ومدافعة خشية الناس, والعمل على إصلاح النية غير موجود عنده, لأنه ترك هذا الأمر بالكلية, لكن لو فعل لوجدت أنه انفتح له باب من أبواب المجاهدة ليس باليسير.
لنفترض أنك أنت إمام في مسجد -مثلاً- أو مدرس للطلاب في مسجد، أو حلقة أو مدرسة أو غير ذلك, لا شك أنه خلال قيامك بهذه المجاهدة، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لا شك أن هذا الأمر يجعلك عرضة لنظر الناس, وربما تسمع شيئاً من ثنائهم, وربما يداخلك شيء من الإعجاب, أو من الفرح بما تسمع من مدح الناس, أو شيء من الشك في النية, أن نيتك غير صحيحة, إلى آخر المشاعر التي تثور في نفس الإنسان, هذه المشاعر في كثير من الأحيان هي التي تقعد بالإنسان, فيقول له الشيطان: ابتعد عن هذه المجالات كلها، وانجُ بنفسك، فمن خلال معاناته لهذه الأمور انفتح له باب مجاهدة, فبدأ يجاهد نفسه في إصلاح النية, وبدأ يجاهد نفسه في عدم الاغترار بثناء الناس ومدحهم, وإذا استمر على هذا العمل -سبحان الله من توفيق الله للعبد أنه إذا استمر في هذا العمل- فإن هذه الأمور تخف تدريجياً حتى تزول.
فمثلاً: إذا كان الإنسان يريد أن يلقي كلمة في مسجد -أضرب أمثلة أنا وجدتها في نفسي، وأعتقد أن كثيراً من الإخوة الذين جربوا في هذه الأمور وجدوها- لأول مرة فإنه يجد أن هذه المشاعر على أشدها في نفسه, الخوف من الرياء, ومن مدح الناس, ومن الإعجاب إلخ؛ لأنه قد تكلف في هذه الكلمة، واستعد لها وشعر بأنها شيء عظيم, لكن إذا استمر هذا العمل فإنه يصبح عنده عادياً, ولا يشعر أنه عمل مهم وكبير حتى يخاف من الرياء, فيقوم بهذا العمل بشكل طبيعي، ولا يشعر بأنه عمل عظيم يخشى على فاعله من الرياء.