وقدم المهدي إلى المدينة النبوية، فبعث إلى مالك ليقرأ على أولاده، فرفض الإمام مالك وقال: [[العلم يؤتى إليه]] هم يأتون إلى المجلس لا أذهب أنا إليهم، فقال الخليفة وكان رجلاً عاقلاً: صدق مالك، اذهبوا إلى مالك واسمعوا له، فذهبوا إلى مجلسه ومعهم المؤدب الذي يعلمهم -الأستاذ- فقال المؤدب للإمام مالك: اقرأ عليهم -والمؤدب يرى أنه يأوي إلى ركن شديد؛ لأنه مؤدب أولاد الخليفة وقد جاء مبعوثاً من الخليفة شخصياً- فقال الإمام مالك: [[إن أهل المدينة كانوا يقرءون العلم علينا، كما يقرأ الصبيان على المعلم]] أنت وغيرك عندي سواء، أهل المدينة عندي يقرءون مثلما يقرأ الطفل عند المعلم في الكتاب، فإن أخطأوا أفتاهم.
فرجعوا إلى المهدي وأخبروه الخبر فكلم المهدي مالكاً وقال له: لماذا؟! قال الإمام مالك: [[يا أمير المؤمنين إني سمعت الإمام ابن شهاب الزهري يقول: جمعنا هذا العلم في الروضة الشريفة من رجال، وهؤلاء الرجال يا أمير المؤمنين هم أمثال سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير والقاسم وسالم ونافع وربيعة ويحيى بن معين وفلان وفلان وكل هؤلاء كان يقرأ عليهم العلم، ولا يقرءونه هم]] فقال الخليفة: نعم والله إن في هؤلاء قدوة، يا أولادي صيروا إلى الإمام مالك فاقرءوا عليه ففعلوا، وجاءوا وجلسوا في غمار الناس، وقرؤوا على الإمام مالك، كما يقرأ سائر الطلاب.
إنه نموذج لقوة العالم المعتد بعلمه، المستغني بما أعطاه الله تعالى عن الدنيا وزخارفها، والتقرب إلى السلاطين، الذي لا يخضع للإغراءات الدنيوية، ويحفظ شخصيته عن أن تهان، إن حفظ الشخصية هنا مطلوب، وليس من التواضع أن يجيبهم إلى ما سألوا، ولا أن يسعى إليهم، ولا أن يذل لهم، هذا ليس من التواضع.
يقول أحد الشعراء:- من الله فاسأل كل أمر تريده فما يملك الإنسان نفعاً ولا ضرا ولا تتواضع للولاة فإنهم من الكبر في حال تموج بهم سكرا وإياك أن ترضى بتقبيل راحة فقد قيل عنها: إنها السجدة الصغرى لا تُقَبِّل راحة العظماء والكبار وتعد هذا تعظيماً لهم، وعرفاناً بحقهم، فإن هذا لا يليق؛ فإن كان مقبولاً من الخدم والحشم والأتباع، فإنه غير لائق ولا جدير للعالم أو طالب العلم أو ذي المكانة في الدين.
وفي بلاد العالم الإسلامي اليوم -مع الأسف الشديد- جهات كثيرة جداً لم يبق لها من أمر الدين -وقد تكون مسئولة عن الفتيا أحياناً، أو عن الشئون الإسلامية- لم يبق لها إلا أن تعلن عن دخول شهر رمضان أو خروجه، بل حتى دخول رمضان وخروجه، أصبح يعرف عندهم، في أكثر من بلد، عن طريق الحساب، فلم يبق للمفتي إذن من شأن ولا مكانة ولا منزلة، وأصبح العالم بجبته وعمامته وثيابه أصبح مستعداً في أكثر من بلد إسلامي؛ لأن يقول بتحليل الربا، إذا كان هذا يخدم هوى ورأي السلطان، وأن يصدر فتوى بجواز الصلح مع اليهود، والجلوس معهم على طاولة المفاوضات، وتسليمهم بلاد الإسلام، والإقرار لهم بالوجود في الأراضي المقدسة، التي بارك الله حولها، إذا كان هذا يرضي أهواء السلاطين، وأصبح العالم بجبته وعمامته وطيلسانه، أصبح يجلس مع النصارى الكفار أعداء الله على مائدة تسمى مائدة الإخاء الديني، والوفاق بين الأديان، وتلتقط له الصور وتعرض في التلفاز وتشاهد في الصحف، ويتحدث عنها القريب والبعيد، ويتكلم هذا المنسوب إلى العلم عن الإخوة الدينية، والوحدة الوطنية، وأن أبناء هذا البلد أو ذاك يجب أن يكونوا إخوة في الوطن وإن فرقتهم الأديان، لماذا؟! لأن هذا العالم أو ذاك أو غيرهما ممن ضربت بهم الأمثلة، وممن لم أضرب أصبحوا مجرد موظفين، جاءوا إلى مناصبهم بقرارات، ومن الممكن أن يزالوا عنها بقرارات، فصاحب الدنيا الراغب في المنصب، العبد للكرسي، يراعي ولي نعمته، ويداري سخطه، وتغير خاطره عليه، ولهذا يسعى جهده وطاقته إلى البحث عن رضاه، ولو كان هذا على سبيل دينه، وعلى سبيل شريعة الله عز وجل، ولم يعد العالم مراقباً أو محتسباً على المجتمع المسلم بقيادته وشعبه، يصحح الخطأ، وينتقد ويعدل، كما كان الأمر في الماضي، بل أصبح تابعاً ذليلاً، يركض في أهواء سادته ويطيعهم، ويبحث عن الكلمة أن يقولها، بمجرد أن يصدر أول حرف منها من فم ولي النعمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.