الجدل ليس من الدين في شيء

هذا شاب ثالث: تضطره مضايق الجدل والمناظرة، التي كان الإمام مالك رحمه الله يقول: [[ليس هذا الجدل من الدين في شيء]] وقد رأى أن بعض طلبة العلم يميلون إلى الجدل ويغرمون به، ويدندنون حوله، فكان ينهى عنه، ويقول: ليس هذا الجدل من الدين في شيء، فهذا شاب تضطره مضايق الجدل والمناظرة العقيمة المذمومة، والتعصب لهذه الراية أو تلك، أو هذه الطائفة أو تلك، أو لهذا الشخص أو العالم أو ذاك، أو لهذا المذهب أو ذاك، إلى أن يغير مواقع العلم، ويبدل ويقدم ويؤخر، ويرفع وينزل، فتصبح الأصول عنده فروعاً؛ لأنه أهملها وغفل عنها، واشتغل بغيرها، ولم ير لها كبير قيمة أو فائدة، فإذا حدث عنها لم يتحرك قلبه، ولم ينشط ذهنه، وتصبح الفروع عنده أصولاً؛ لأنه اعتنى بها، وحرص عليها، وتحفظها وقدمها، وعدَّها أساساً للمخالفة مع فلان، والموافقة مع علان، لذلك أصبحت هذه الفروع عنده أصولاً يعظمها ويبني عليها، ويحاول أن يعطيها لوناً آخر غير اللون في شريعة الله، فيجعلها مرتبطة بأصل، أو مرتبطة بما يسميه منهجاً مثلاً، حتى يثبت أنه لابد من مخالفة فلان، ولابد من الرد على علان، وأن فلاناً من أهل الزيغ، وفلاناً من أهل الضلال، فلابد من الاشتغال بالرد عليه وبيان ما وقع فيه.

وهذا شاب رابع: يرى حاجة الناس إلى علم الشريعة فيستعجل الخطوات، ويختصر المسافات، فيقرأ -مثلاً- كتاباً من كتب أهل العلم ككتاب المحلى للإمام العظيم ابن حزم، فيجد في هذا الكتاب من روعة الأسلوب وقوة الحجة، وبراعة الإحراج للخصوم بطريقة ابن حزم رحمه الله، ما يجعل هذا الشاب المقبل على العلم أسيراً لعقلية الإمام ابن حزم وعلم ابن حزم وحجة ابن حزم، فلا يخرج عن رأيه طرفة عين، ويفتي بمذهبه، ويقرأ على الناس في المحلى، ويركض وراءه؛ فإن رقى جبلاً رقى وراءه، أو هبط سهلاً أو وادياً، أو تجشم صعباً لا يلوي على شيء؛ وذلك لأنه لا يملك من العلم والتأصيل وقوة النظر، ما يجعله يميز بين الاجتهاد الذي أصاب، وبين الاجتهاد الذي لم يصب، ولو أن هذا الإنسان أو ذاك، أعطى نفسه بعض الوقت، وصبر وصابر، حتى ينضج على نار هادئة، ولو أنه لم يستجب لنوازع الشهوة الخفية في النفس، لنفع وانتفع، وكان شيئاً مذكوراً.

إننا ونحن نعاني الخلاف المرير في أوساط أهل السنة، الذين هم أهل السنة، نرى أن معظم هذا الخلاف لم يصدر من العلماء الكبار، الذين تلتف الأمة حولهم وتأخذ بفقههم وعلمهم ورأيهم، ولكن غالبه إنما يكون من صغار الطلبة المغمورين، الذين لم يُعرَفُوا بكبير علم ولا جهاد ولا بلاء ولا عمل، هذا أمر.

الأمر الثاني: مع أن الإمام مالكا -كما أسلفت- لم يتجرأ على الجلوس للتعليم، حتى أمره شيوخه بذلك وأفتوه به، إلا أنه مع هذا كله كان يرى أن العلم لا ينتهي، فظل مع جلوسه يأخذ العلم ممن جاء به، لا يفرق بين أحد، حتى إنه أخذ من بعض طلابه مسائل، وعلى سبيل المثال فإنه رجع إلى مذهب بعض طلابه، كما في ترجمة عبد الله بن وهب، ورجع إلى قوله في مسألة تخليل الأصابع في الوضوء، وكان الإمام أحمد يقول: وقد رئي معه كتاب، ومعه دواة الحبر ومعه القلم: فقيل إلى متى يا أحمد؟ قال: مع المحبرة إلى المقبرة، يعني: لا أتوقف عن طلب العلم حتى الموت، وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول:- سأطلب علماً أو أموت ببلدةٍ يقل بها سكب الدموع على قبري فإن نلت علماً عشت في الناس سيداً وإن مت قال الناس بالغ في العذر إذا ما مضى يوم ولم أكتسب هدى ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري والإمام مالك مع أنه تأهل وترشح وطلب العلم، كان يقظاً حذراً عاقلاً، لا يتكلم فيما لا يحسن، ولا يهجم على كل شيء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015