الموقف الثاني:- جاء في حلية الأولياء لـ أبي نعيم، والسير للذهبي، أن مالكاً رحمه الله قال: [[ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني، هل تراني موضعاً لذلك؟ قال: سألت ربيعة بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد، فأمراني بذلك، فقال له قائل: فلو نهوك عن ذلك، هل كنت تنتهي؟ قال: نعم، كنت أنتهي، لا ينبغي للرجل أن يبذل نفسه، حتى يسأل من هو أعلم منه]] .
يعني: أن الإمام مالكاً لما بلغ عمره إحدى وعشرين سنة لم يستعجل في أن يجلس للتعليم، ولا أن يتصدر للفتيا حتى سأل الشيوخ، وقال لهم: أنا تلميذكم وأنتم تعرفونني، هل ترون أني أهل لأن أفتي وأتكلم وأعلم العلم الشرعي؟ قالوا له: نعم أنت أهل فاجلس وعلم، قيل له: لو منعوك تمتنع، قال: نعم أمتنع؛ لأنهم أعلم مني وأبصر مني، فلابد أن أتوقف حتى أسأل من هو أعلم مني.
وكانت هذه عادة متبعة عند السلف، لم يجلس المزني -مثلاً- حتى سأل الإمام الشافعي وهو شيخه فقال له الشافعي: اجلس يا أبا عبد الله، فقد آن لك والله أن تجلس، والشافعي نفسه قال له أحد شيوخه: اجلس فقد آن لك أن تجلس، فحينئذٍ جلس للتعليم.
وما زال العلماء يعرفون عبر التاريخ ما يعرف بالإجازة، أي: أن العالم كان يعطي تلميذه مثل الشهادة، على أنه تلقى منه كتاب كذا وكتاب كذا، وكتاب كذا، وأنه من الممكن أن هذا التلميذ يروي هذه الأحاديث، أو هذه الكتب للناس ويعلمهم إياها، وهي ما تشبه اليوم الشهادة.