من الخلل في التفكير: أننا أحياناً نبالغ في تضخيم الإنجازات، ونبالغ في تهوين الأخطاء، أحياناً الأخطاء نهونها ونقول: هذه أشياء عادية، وأمور بسيطة تم تعليقها، وانتهى الموضوع، محاولة أن أنهى الخطأ بأي شكل.
أما الإنجازات فنعظمها وننفخ فيها، حتى نعطيها أكبر من الحجم الطبيعي.
يقول: يا أخي! حتى لا نزعزع ثقة الناس بهذا العمل الذي قمنا به.
أو يقول: حتى لا نعطي العدو فرصة، لأن ينفذ من خلال هذا العمل أو ذاك.
وعلى سبيل المثال فيما يتعلق بالجوانب الرسمية؛ إن كان يسوغ ذكر، مثال لها: العرب في عام (73) فيما يسمى حرب رمضان، حققوا نصراً جزئياً، هذا النصر بالغوا في وصفه وتضخيمه، حتى اعتبر كأنه فتح الفتوح والنصر المبين، الذي أشبع كل رغبة الشعوب وحقق إراداتها، وجعلها تصل إلى ما كانت تصبو إليه، فنحن بالغنا في هذا النصر الجزئي وفي تضخيمه، وأعطيناه أكبر من حجمه، هو قد يكون نصراً، لكنه نصر جزئي.
وفي المقابل الحروب السابقة، كحرب (67) و (56) و (48) هذه الأشياء تمر مرور الكرام، ونحاول ألا نقول: إنها هزائم، بل بالعكس -أحياناً- قد تتحول إلى انتصارات ولو كانت هزائم، ولو قتل منا اثنا عشر ألفاً أو عشرون ألفاً، ولو تحطمت الطائرات، المهم أنه انتصار، لماذا؟ لأن بقاء الحزب -كما يقال في بعض البلاد- بقاء الحزب الحاكم نفسه يعتبر نصراً، لأنه هو الحزب التقدمي الذي كانت إسرائيل تسعى للإطاحة به مثلاً، فهذا نصر بحد ذاته.
فنحاول أن نصور للناس دائماً على أن الهزائم انتصارات، أو يخفف من وقع هذه الهزائم على النفوس، والواقع أننا ينبغي أن نضع الأخطاء، ونضع الإنجازات في وضعها الطبيعي.
وليست القضية أننا نبالغ في الإنجازات وتضخيمها، وتهوين الأخطاء، بل قد نفتعل ونختلق إنجازات ليس لها وجود أصلاً -كما ذكرت قبل قليل- ونعتبرها نوعاً من النصر المبين.
مثال آخر: القضية الأفغانية فنحن دائماً نتكلم عن المكاسب.
وينبغي أن نتحدث عنها، وهذا لا شك فيه، ومنها: انتصارات، وتحرير جزء كبير من أراضي أفغانستان، واستمرار الجهاد على مدى هذه المدة الطويلة، يقاوم قوة من القوى العظمى لفترة من الفترات، ثم يقاوم إحدى الحكومات المدعومة في فترة أخرى، وأيضاً اتخذ الله منا شهداء، نرجو الله تعالى أن يتقبلهم، وأن يغفر لنا ولهم، ويثبت من بعدهم ومن وراءهم، واستفاد المسلمون دروساً كثيرة.
هذه المكاسب للجهاد الأفغاني، لكن ينبغي أن تكون المكاسب معقولة، فلا يأتي واحد ويقول: الصحوة الإسلامية كلها من مكاسب الجهاد الأفغاني.
لا، بل أنا أستطيع أن أقول العكس: إن الجهاد الأفغاني هو أثر من آثار الصحوة الإسلامية وجزءُ منها، والصحوة أكبر من بلد معين وأكبر من حركة جهادية، الصحوة صحوة علمية، وشرعية، وسلوكية وأخلاقية، واقتصادية، وفي كافة المجالات، وفي كل البلاد، ولذلك فإنها أوسع من ذلك.
هناك حركة جهادية أخرى في غير أفغانستان، قد يكون بعضها قبل أفغانستان، كالجهاد في الفلبين مثلاً، وبعضها معه، وبعضها بعده أيضاً، والحركات الجهادية التي جاءت بعد أفغانستان، من المتوقع بل ربما من المؤكد أن للجهاد في أفغانستان دور في تحريك الجهاد في تلك البلاد ودعمه، هذا لا شك فيه.
قضية سقوط الشيوعية -مثلاً- سقوط الشيوعية أكبر من أن نقول: إن سبب سقوط الشيوعية هو الجهاد في أفغانستان.
صحيح أن أفغانستان من الأسباب، ويكفي أن الروس أدانوا التدخل في أفغانستان، وتلقوا في ذلك درساً ليس بالبسيط، وكان تدخلهم مسماراً في سقوط نفس الشيوعية، لكن سقوط الشيوعية أمر قبل الجهاد الأفغاني وبعده، بمعنى: أن سقوط الشيوعية أمر محتمُ، لأنها مخالفة للسنن الكونية وللنواميس، ومخالفة للفطرة وللحق، ولذلك كان لابد أن تسقط بهذا السبب أو بغيره من أسباب أخرى كثيرة، وقد سقطت الشيوعية في أنحاء كثيرة من العالم بسبب الكساد الاقتصادي، والإفلاس العقائدي، وبسبب عجزها عن صهر القوميات، وعن تلبية نداء الفطرة، وبسبب المشاكل التي واجهتها والتي كانت قضيةأفغانستان أحدها.
ففرق بين أن أقول: إنّ الجهاد في أفغانستان سبب من أسباب سقوط الشيوعية، وبين أن أعزو سقوط الشيوعية -كما سمعتُ هذا بنفسي عن مسئول كبير جداً في دولة أفغانستان المؤقتة- أن سقوط الشيوعية كان سببه الجهاد في أفغانستان.
كذلك الحركات الإسلامية والشعبية، وحركات الإنقاذ والدعوة في كل البلاد، لأفغانستان دورُ عليها، ولها هي دورٌ في أفغانستان أيضاً، فالمسألة مسألة تأثير متبادل بين هذه الحركات الجهادية والحركات الدعوية في أنحاء العالم الإسلامي، وإن كنتُ أعتقد أن أفغانستان بجهادها المستمر المستميت؛ سببٌ أصيل في كثيرٍ من هذه الحركات، وتحصيل هذه النتائج وإنجاز بعضها، ولكن ثمة أسباب أخرى كثيرة، وثمة قوى أخرى متظافرة.