الفرق بين الشهادة بالصلاح، والشهادة بنيل الجنة أو العكس

لكن لا ينبغي أن نقطع لإنسان أنه من أهل الجنة، ولا نقطع لآخر أنه من أهل النار، وإليكم هذين المثالين أيضاً، وقعا في عهده صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين {أن عتبان بن مالك رضي الله عنه، وكان رجلاً من الأنصار، وكان رجلاً ضخماً -كبير الجسم- ففي آخر عمره ضعف بصره، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله إنني قد ضعف بصري وأحب أن تأتي إلى بيتي فتصلي في مكان اتخذه مصلى-تصلى في موضع من البيت حتى أصلي فيه، أتخذه مصلى في داخل البيت- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غداً آتيك، فلما كان الغد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في الضحى، ومعه نفر من أصحابه، أبو بكر وعمر وأنس بن مالك ومحمود بن لبيد وغيرهم، فدخلوا إلى عتبان رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين تحب أن أصلى؟ فقال: في هذا المكان، وأشار رضي الله عنه إلى مكان، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى بأصحابه -كانت صلاة الضحى- ولما صلى جاءوا إلى مكان وجلسوا فيه، فحبسهم عتبان رضي الله عنه على طعام صنعه للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما أكلوا الطعام بدأوا يتحدثون.

فذكر أحدهم رجلاً من أهل المدينة، اسمه مالك بن الدخشم، فقال: واحد ذاك رجل لا يحب الله ورسوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى ولكن لا شهادة له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، فقام رجل آخر، وقال يا رسول الله، إنا نرى وجهه إلى المنافقين -الرجل توجهه وعلاقته وحياته أكثرها إلى المنافقين ومعهم- فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الجزم؛ بأن هذا الرجل لا يحب الله ورسوله، وقال: (أليس يشهد أن لا إله إلا الله} فَيُفْهَمُ من ذلك أنك تثني على الإنسان بالخير، إن كان من أهل الخير، أو تثني عليه بالشر، إن كان من أهل الشر، لكن لا تحكم له بأنه لا يحب الله ورسوله، أو أنه من أهل الجنة أو من أهل النار.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الحكم على مالك بن الدخشم، بأنه لا يحب الله ورسوله، ففي المقابل استمع إلى هذه القصة، لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، كان معه ثلة من المهاجرين الطيبين الأخيار الأطهار الكرام، منهم رجل من قريش زاهد عابد، هو عثمان بن مظعون، أبو السائب رضي الله عنه وأرضاه، كان رجلاً من عُبّادِ الصحابة، فلما هاجر، كان المهاجرون أقل من الأنصار.

ولذلك تنافس الأنصار في المهاجرين، كل واحد أو كل بيت من بيوت الأنصار يقولون: لا!، نحن نريد فلاناً، منافسة في الخير، كل بيت من بيوت الأنصار يقولون: نريد نصيبنا من المهاجرين، من غير المعقول أن يذهب بنو فلان وبنو فلان بالمهاجرين، ونحن لا يصيبنا أحد منهم، فلما تشاحوا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم قرعة، أقرع بينهم، فتقول أم العلاء الأنصارية كما في صحيح البخاري، تقول: طار لنا عثمان بن مظعون أي وقع في سهمنا عثمان بن مظعون فجلس عندهم، وكان يصوم النهار، ويقوم الليل.

حتى إنه هَمَّ بأن يتبتل، هَمَّ بأن يترك الزواج ويترك الدنيا ويتفرغ للعبادة، فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولذلك جاء في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: {نهى النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون عن التبتل، ولو أذن له لاختصينا} كلهم كانوا يحبون العبادة، لو أذن له النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتركوا الدنيا والزواج وتفرغوا للعبادة.

لكن منعهم من ذلك وحجبهم عنه، حتى أن زوجة عثمان بن مظعون كما في الصحيحين جاءت إلى بعض أمهات المؤمنين، جاءت عند عائشة، وكانت متبذلة -ملابسها متواضعة لا يظهر فيها أي اهتمام بهيأتها- لما خرجت سأل النبي صلى الله عليه وسلم عائشة من هذه؟ قالت: هذه زوجة عثمان بن مظعون، فسألها: لماذا كانت متبذلة؟ قالت: إنها تقول أن عثمان ليس له حاجة فيها.

ليس له حاجة في الدنيا، ليس له سبيل إليها، فهو مشغول بعبادته وصلاته، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ونهاه عن ذلك، وأمره بأن يعطي كل ذي حق حقه، هذا الرجل العابد، مات في أول أزمنة الهجرة، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بالسلف الصالح، فقال: {نعم السلف الصالح لنا عثمان بن مظعون} ؛ لأنه من أول من مات من المهاجرين.

المهم في القصة {عثمان بن مظعون يجود بنفسه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما هو فيه من الضيق -ضيق الاحتضار وفزع الموت وثِقل النزع- نزل النبي صلى الله عليه وسلم وطأطأ رأسه وقبله، ثم بكى صلى الله عليه وسلم، فقالت أم العلاء الأنصارية رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله تترحم على عثمان بن مظعون وتقول: شهادتي عليك، لقد أكرمك الله فشهدت، لكن شهدت بماذا؟ شهدت بأن الله أكرمه فما أعجب الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام- وقال لها: ماذا قلت؟ قالت: شهادتي عليك يا أبا السائب لقد أكرمك الله قال: لها صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟! قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فمن يكرمه الله إذا لم يكن عثمان بن مظعون رجل من خيرة الناس من عباد الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني والله وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي ولا بكم، وإني لأرجوا له خيراً} .

فأفهمها صلى الله عليه وسلم أن المؤمن يرجو ويخاف، نرجو الخير للمحسنين، ونخاف الشر والنار والعذاب على المنحرفين والفاسقين، لكن لا نحكم لهم {إني لأرجو له الخير} ثم قال: {إني والله وأنا رسول الله ما أدري ما يفعل بي ولا بكم} ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9] {فلما قال لها ذلك صلى الله عليه وسلم حزنت حزنا شديداً، ثم نامت فلما كانت في المنام، رأت عثمان بن مظعون على أحسن حال، ورأت له عيناً تجري في النوم، فجاءت إلى سول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: ذلك عمله} العين التي رأيتها تجري له في المنام عمله الصالح، يظل يدر عليه بعد وفاته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015