الاختلاف والتناحر

من العقوبات: الاختلاف والتناحر داخل المجتمع الواحد، وهذه من أنكى العقوبات وأعظمها، لأنها تجعل المجتمع عرضة للانهيار والانهزام أمام العدو الخارجي، والتفرق يكون إذا ابتعد الناس عن شريعة الله، لأن شريعة الله تجمع الناس، تجمع الأهواء المتفرقة، لكن إذا انحل ارتباط الناس بشريعة الله، أصبح كل إنسان يتبع هواه، وأهواء الناس ليس لها ضابط فيتفرقون.

ومن المآخذ اللطيفة التي تلاحظ في هذا الباب، أي نموذج من نماذج التفرق، لو لاحظت في عدد غير قليل من المجتمعات، أذكر أن بعض الصحف كانت تنشر منذ سنوات خبراً أو سلسلة من الأخبار المتتالية، تقول هذه الأخبار: إن هناك في إندونيسيا، حيث تشيع المنكرات -وهي على قدم وساق من الفواحش، والفجور , والبغاء، والخمور، والتبرج وغيرها، كما في كثير من بلاد الإسلام الأخرى- قالت تلك الأخبار: إن هناك مجموعة من الناس لا يعرف من هي؟ بدأت تتصيد المجرمين خفية وتضحي بهم، فإذا وجدوا من إنسان -مثلاً- أنه يقوم على بيت دعارة، أو منكرات علنية أو فساد ظاهر، فإنهم يقضون على هذا الإنسان، وظلت الأخبار متتالية لفترة غير قليلة عن مثل هذا.

هذا خبر يمكن أن نقرأه ونمر عليه سراعاً، نسمع اليوم عن أخبار تجري في عدد من البلاد الإسلامية، في مصر -مثلاً- وغيرها.

أن بعض الغيورين المتحمسين يقومون بأعمال إنكار بعض المنكرات، مثلاً: أعلن في جامعة، أظنها جامعة أسيوط عن حفل غنائي مختلط، فيه ما فيه، الله أعلم ما فيه، فقام عدد من الطلاب ضد هذا المنكر، وأتوا المكان، واستطاعوا أن يدخلوا بقوة، وحطموا آلات الفسق والمنكر والغناء، ومنعوا إقامة الحفل في تلك الليلة، هذا الخبر يعتبرونه على أنه حدث مخل في الأمن إلى آخره.

وقد يتطور الأمر، قد يحصل تعجل من هؤلاء الناس واندفاع، هذا نموذج للتفرق الذي يحصل في المجتمع بسبب ترك الأمر بالمعروف، وبسبب عدم وجود قنوات رسمية شرعية يستطيع المسلم من خلالها أن يمارس أو يطبق ما يدين الله به من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يجد الوسيلة والقناة الشرعية، فتفرق الناس في مداخل وطرقات كثيرة متعرجة.

لكن لو وجد الإنسان طريقاً شرعياً للإنكار، بل ولبعض الإنكار، لو كان يستطيع أن ينكر بلسانه، ويقف ضد هذا المنكر، لكان من الممكن ألا يلجأ إلى مثل هذه الطريقة، وهذا الطريقة تُوجد تفرقاً كبيراً في المجتمع الواحد، سواء في طريقة الإنكار، أم في نتائجه، أم في الموقف منه، إلى غير ذلك، فيحصل التفرق والاختلاف في داخل المجتمع ويتفاقم الأمر، هذا نموذج -فقط- من نماذج الاختلاف الذي يحصل في المجتمعات بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينبغي أن ننتبه جيداً لهذا.

وبالمناسبة أذكر قصة، ذكرها الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي قصة طريفة: فقد ذكر أن هناك بيتاً في بغداد كانت فيه منكرات، كان فيه عزف وطبل، وأصوات غناء، فجاء أناس إلى هؤلاء ونصحوهم مرة ومرتين وثلاثاً، فأصروا على ما هم عليه، فجاء رجل من الصالحين، وكان ذا صوت حسن عذب لتلاوة القرآن، فطرق الباب عليهم وأمرهم ونهاهم، فلم يطيعوه، فماذا صنع؟! جلس على باب الدار في السوق، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم وسمى وبدأ بصوته العذب الشجي يتلو آيات من القرآن الكريم، فتجمع الناس حوله وهم يبكون خاشعين لهذه الآيات المؤثرة المزلزلة، وقد تكون آيات مناسبة للموقف، مثل الآيات التي فيها الوعيد بالآخرة، وما فيها من الأغلال والنكال للعصاة، أو فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ما أشبه ذلك، ثم جاء أهل المنكر خجلين مما هم فيه، وكسروا مزاميرهم وطبولهم، واعتذروا إلى هذا الرجل وإلى الناس، ولم يعودوا إلى فعلهم.

ومثل هذا، ما حصل أن أحد طلاب العلم سمع بأن في مكان ما احتفالاً غنائياً يجتمع فيه أعداد كبيرة من الشباب، وهو شخص له مكانته، فما كان منه إلا أن أتى إليهم فنصحهم فما امتثلوا، فجلس في مكان قريب مجاور لهذا الأمر، وبدأ يتحدث بصوت جهوري وحوله مجموعة قليلة من أصحابه، فمازال الناس يكثرون وهو يتحدث حديثاً عاطفياً مؤثراً، حتى تجمعت أعداد كبيرة، ثم ترك أولئك ما كانوا فيه، أو ما عزموا عليه من الغناء، وجاءوا يستمعون وتأثروا، وأمكن زوال المنكر بطريقة أفضل مما يفعله كثير من الناس من التعجل وإزالة المنكرات بأسلوب قد يضاعف هذا المنكر.

الأمر الذي أريد أن أقوله: إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسبب تفرق المجتمعات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015