أخيرًا العبودية للحياة: قال الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] وهم اليهود، يعني أي حياة مهما كانت، حياة الذل والخوف والهوان والعبودية وغير ذلك، المهم يريدون الحياة بأي ثمن لأنهم أصبحوا عبيداً لها.
ومن الطريف أني أذكر مقابلة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في إذاعة مونتكارلو أثناء أحداث الخليج فتكلم هو عن تضحيات المسلمين وبذلهم وفدائهم -أي الفدائيين- وقال: إنهم يجاهدون وإنهم إلخ، والدليل قول الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] فقلب الآية هو يظن أن الآية مدح لهؤلاء، والواقع أن الآية ذم لمقابلهم وهم اليهود بأنهم أحرص الناس على حياة مهما كانت حياة الذل.
ما هي الأشياء التي تجعل الواحد منا يخاف؟ لماذا يخاف؟ يخاف إما على المنصب وإما على المال أو الحياة، فإذا كان عنده إيمان بأن الله تعالى هو الضار النافع والمعطي والمانع والمحيي والمميت والخافض الرافع، ومقاليد الأمور كلها بيده، فله مقاليد السماوات والأرض، وهو مقدر الأقدار ومكور النهار على الليل، ومكور الليل على النهار، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وأن الخلق لو اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك، وإن اجتمعوا على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك أو عليك، فما هو الذي يجعل الإنسان يحجم ويجمجم ويحمحم، ويحسب الحسابات الطويلة العريضة ويتهيب من كل شيء؟! إذاً: لابد من تحرير الإنسان من العبودية لغير الله تعالى بحيث يكون عبداً لله تعالى، لكن ما هي الوسائل؟ أقول: هذا كلام يطول وسأضرب لك مثالاً واحداً فقط: خذ -مثالاً- الصلاة؛ فأول ما تكبر تقول: الله أكبر، فإن كل الأشياء وكل الأصنام، وكل العبوديات تسقط، ويبقى الله تعالى وحده فهو الكبير المتعال، ثم بعد ذلك ماذا تقول؟ تقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.
فتعترف بأنك قد أقررت والتزمت بهذا المنهج الذي يجعل الحياة عبودية لله لا للطاغوت، ثم تركع لله، فتسبحه وتسجد لله، وتجلس لله وتدعوا الله وتذكر الله، حتى إنك لو تأملت كل الأدعية، بل والأذكار -مثلاً- لما يرفع المصلي رأسه من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد ملأ السماوات والأرض، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، هذا الدعاء ماذا يعني؟ يعني: الاعتراف بأن الأمور كلها لله وأن الخلق ليسوا إلا بشراً ضعافاً مهازيل، يجري الله تعالى على أيديهم ما يشاء، فلا تخف منهم ولا ترهب، وكن إنساناً واثقاً بالله عز وجل حكيماً، وإياك إياك أن تغلبك المخاوف فإنك تعيش شقيًا في حياتك، ولا تعمل شيئاً أبداً.
والحياة لا تقاس -أيها الأحبة- بعدد السنوات، لا! وإنما تقاس بحجم الإنجازات، وكم من إنسان كان عمره أربعين سنة وخمساً وثلاثين أو ثلاثين ومع ذلك خلد في الدنيا ذكره وأعظم في الآخرة أجره، وبالمقابل كم ممن هم بيننا -الآن- ممن أعمارهم في السبعين والثمانين والتسعين والمائة، ومع ذلك لا يعلم بهم أحد، ولا يلتفت إليهم أحد؛ لأنهم عاشوا لأنفسهم فقط، فلنتحرر -أيها الإخوة- من العبودية لغير الله، ومن العبودية لأنفسنا، ولنتحرر من المخاوف والأوهام ومن العقد التي تملأ قلوبنا، وتعشش في أفكارنا، وتجعل الواحد منا ظلاً واهناً ضعيفاً لا يقدر على شيء، ولا يحمل شيئاً، ولا يتحمل مسئولية، ولا يقدر على شيء، يفرق حتى من ظله، فالعبودية إلى لله تعالى عز وكرامة وشرف وقوة وشجاعة.
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقني وإياكم تحقيق العبودية له، وأن يخرج من قلوبنا العبودية لغيره، من إنسان أو حجر أو شجر أو دنيا أو غيرها، وأسأل الله تعالى أن يجعل قلوبنا معمورة بحبه، والتأله إليه والشوق إلى لقائه في غير ضراء مضرة ولا فتنته مضلة، اللهم يا حي يا قيوم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
وفي الأخير أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم ويتب عليكم إنه هو الغفور الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.