السعيد يجد من توفيق الله ما ينسيه هذا التعب، بخلاف الشقي

الفرق الرابع: أن المطيع والسعيد يجد في الدنيا من توفيق الله عز وجل له وتيسيره ما ينسيه هذا الشقاء، فهو ممن تكفل الله عز وجل بدفع كربتهم وإزالة غربتهم.

ولذلك لما جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته في مكة، ورمته قريش عن قوس واحدة، وأساءت إليه، قيض الله عز وجل له عمه أبا طالب، فكان يدفع عنه ويحميه ويقف دونه، حتى يقول في قصيدته المشهورة مخاطباً قريشاً، ومبيناً استعداده للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنفس والمال والأهل والولد، يقول: كذبتم -وبيتِ الله- نبزْى محمداً ولما نُطَاعِنْ دُونَهُ ونُنَاضِلِ ونُسْلِمَهُ حَتىَّ نُصَرَّعَ حوله ونُذْهَلَ عن أبنائنا والحلائلِ رجل كافر يعلن أمام الملأ من قريش أنه لا يمكن أن يسلم إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقتل دونه، ويذهل عن أولاده وعن أزواجه وعن أمواله، وهو كافر! لكن الله سخره لنبيه صلى الله عليه وسلم.

وهكذا أصحابه كان الله يقيض لهم من يحميهم ويجيرهم، كما قيض الله ابن الدغنة والمطعم بن عدي وغيرهم من كفار قريش لحماية أصحابه.

ثم لما ذهب الصحابة المهاجرون إلى الحبشة قيض الله عز وجل لهم النجاشي حال كفره -ثم هداه الله للإسلام- فحماهم حتى كان يقول لهم: [[اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي]] وكلمة شيوم بالحبشية معناها: آمنون، [[اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم]] ورَدَّ رسولي قريش اللذين جاءا في طلبهم.

ثم قيض لهم الأنصار الذين عقدوا البيعة على استقبالهم، حتى كان الأنصار رضي الله عنهم يتنازعون في إيواء المهاجرين، حتى لم ينزل واحد من المهاجرين على واحد من الأنصار إلا بقرعة، وحتى آثروهم بالأموال والزوجات، وبذلوا في سبيل نصرتهم وإيوائهم ما ذكره الله عز وجل بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .

وهذا ليس خاصاً بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل تجد من العلماء والدعاة من قيض الله عز وجل له -سواء من المؤمنين أو من الكفار أحياناً- من يعينه وينصره.

يذكر التاريخ عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن قازان التتري لما هجم على بلاد المسلمين وأهلك الأخضر واليابس والحرث والنسل والبلاد والعباد، اتفق مجموعة من مشايخ الشام على الخروج إليه ومحادثته، ومحاولة أخذ الأمان لأهل الشام منه.

فخرج ابن تيمية رحمه الله مع مجموعة من العلماء، فلما دخلوا على قازان تصدر ابن تيمية للحديث، وتحدث بكلام قوي بليغ؛ وقال له: (يا قازان! أنت -وأنت تزعم أنك مسلم) وكان قازان من الحملات التترية التي تدعي الإسلام، أما أجداده الأوائل: هولاكو وغيره فكانوا كفاراً وثنيين (يا قازان! أنت -وأنت تدعي الإسلام- قد أفسدت بلاد المسلمين وأسأت إلى المسلمين ما لم يفعله أجدادك الوثنيون الذين كانوا لا يدعون الإسلام ولا ينتسبون إلى الدين لا شكلاً ولا حقيقة) وظل يتكلم عليه بكلام ساخن قوي، دون هيبة أو وجل، حتى أَجَلَّه قازان وعظمه، وقال لترجمانه الذي كان يترجم كلام ابن تيمية: قل لهذا الشيخ يدعو لي، قل له: يدعو لي!! فرفع ابن تيمية يديه إلى السماء، وقال: اللهم إن كان عبدك هذا -ويشير إليه بأصبعه- خرج وجاء إلى هذه البلاد مقاتلاً في سبيلك فأيده وانصره، وإن كان خرج رياء وسمعة، وفي سبيل توسيع رقعة أرضه، وتوطيد سلطانه، وإيذاء بلاد المسلمين، وإهلاك العباد -وظل يذكر الأوصاف الموجودة فعلاً في قازان - فأهلكه وأهلك جنده، وانتقم منه، واكف المسلمين شره، وظل يدعو عليه، وقازان رافعٌ يديه إلى السماء يؤمن على دعاء الشيخ، دون أن يعرف ماذا يقول إلا أن الترجمان يترجم كلامه.

ثم خرجوا من عنده، فقال المشايخ للشيخ ابن تيمية رحمه الله: إننا لا نريد أن نصحبك؛ لأننا نعرف أن هذا السلطان الطاغي سوف يرسل إليك في الطريق من ينتقم منك، فقال ابن تيمية رحمه الله: وأنا -أيضاً- لا أريد أن أصحبكم، فذهب العلماء في طريق وذهب هو في طريق آخر.

يقول أحد هؤلاء العلماء، وهو الذي يروي القصة: (فأما ابن تيمية رحمه الله فإنه لم يصل إلى دمشق إلا في وسط حراسة كوكبة من فرسان التتر الذين ثارت في نفوسهم الحمية والأريحية، وأعجبوا به وبشجاعته، فذهبوا يحرسونه حتى أوصلوه إلى بيته في دمشق، أما نحن فسلط علينا مجموعة من العيارين فشلحونا وأخذوا ما بأيدينا!) وهذا أنموذج للتعب الذي يبذله السعداء فيقيض الله عز وجل لهم في الدنيا من يعينهم وينصرهم ويذهب عنهم آثار هذا التعب.

ولكنا نجد في حياتنا اليوم أن كل تعب يبذله الإنسان في سبيل الله فإنه يلقي جزاءه عاجلاً غير آجل.

ويحدثني أحد الشباب الذين ذهبوا للدراسة فيأوروبا أن هناك رجلاً أسلم من الأوروبيين وحسن إسلامه، وصار حريصاً على تطبيق شعائر الإسلام كلها، حريصاً على أن يظهر إسلامه ويعتز به أمام الكفار دون خجل أو حياء أو تردد، حتى لو لم يكن هناك مناسبة، فإنه يحرص على أن يفتعل المناسبات ليظهر إسلامه.

يقول: فأعلن في أحد المؤسسات الحكومية في تلك البلاد الكافرة عن وجود وظيفة فتقدم لها، فسأله المقابل عن بعض الأمور ومن ضمنها قال له: هل تشرب الخمر؟ قال: لا أشرب الخمر، لأنني قد أسلمت، وديني يمنعني من معاقرة الخمر وشربها.

قال: هل تتخذ الخليلات والصديقات؟ قال: لا؛ لأن دين الإسلام الذي أنتسب إليه يُحَرِّمُ عليًّ ذلك، ويقصر علاقتي على زوجتي التي نكحتها بمقتضى شريعة الله عز وجل.

وخرج وهو شبه يائس من أن ينجح في هذه المسابقة!! ولكن النتيجة كانت أن جميع هؤلاء المتسابقين -وكان عددهم كبيراً- فشلوا ونجح هو وحده في هذه المسابقة.

فذهب إلى الشخص الذي أجرى معه المقابلة، وسأله قائلاً: كنت أنتظر أن تحرموني من هذه الوظيفة عقاباً لي على مخالفتكم في دينكم، وعلى اعتناق الإسلام، ولكنني فوجئت بأنكم قبلتموني ورددتم أبناء دينكم من النصارى، فما هو السر في ذلك؟ فقال له: إن الشخص المرشح لهذه الوظيفة كان يشترط فيه أن يكون شخصاً منتبهاً في جميع الحالات، حاضر الذهن، والشخص الذي يتعاطى الخمر لا يمكن أن يكون كذلك، فكنا نترقب شخصاً من الأشخاص الذين لا يشربون الخمر، ونظراً لتوفر هذه الخصلة فيك فقد وقع الاختيار عليك لهذه الوظيفة! وكل واحد منا قد يجد في حياته -مثلاً- كبيراً أو صغيراً، يصدق هذه القاعدة: (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) .

فتعب السعداء يصحبه في هذه الدنيا لطف من الله عز وجل، بأن يقيض لك سواء من المؤمنين أو من غيرهم، من يكون عوناً لك على ما تلقاه من الجهد والتعب.

أما تعب الأشقياء فليس كذلك، فإن الله عز وجل يسلط بعضهم على بعض، ويسلط عليهم من المؤمنين من يكون سبباً في شقائهم وعذابهم.

ومن الأمثلة على ذلك ما شرعه الله عز وجل من الجهاد الذي يقتل فيه الكفار وتسبى نساؤهم، وتؤخذ أموالهم غنيمة في سبيل الله، فهذا نوع من العذاب الذي سلطه الله عز وجل على هؤلاء الكفار بأيدي المؤمنين.

ولذلك يقول الله عز وجل: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015