إن كثيراً من المسلمين لا يعرفون التوسط والقسط في الأمور، ليس عندهم أنصاف الحلول -كما يقال- عندهم إما أبيض وإما أسود، إما صح وإما خطأ، فإذا أعجبوا بشيء أعطوه (100%) ، وإذا عزفوا عنه أعطوه صفراً.
لو فرضنا -مثلاً- أن واحداً قرأ كتاباً فأعجبه هذا الكتاب، وصار يتكلم عنه في كل مجال وفي كل ميدان، ويقول: هذا الكتاب الذي ما أُلّف قبله ولا بعده مثله، هذا الكتاب فيه وفيه، هذا الكتاب الفتح المبين، هذا الذي يجب أن لا يخلو منه بيت.
ثم أصبح يضفي على هذا الكتاب من الألقاب والأوصاف والمدائح مالا يجدر بكتابٍ من وضع البشر مهما كان، وحين يقرؤه غيره قد يجد في الكتاب نواحي إيجابية، ولكن يجد فيه نواحي سلبية، أو -على أقل تقدير- قد يخرج بانطباع أن ذلك بالغ في الثناء على هذا الكتاب، وأعطاه أكبر مما يستحق.
ثم تأتي لآخر ربما في نفس الكتاب أو في غيره، يقرأ الكتاب فيأتي ويقول: هذا الكتاب لا يساوي شروة نقير، ولا يستحق أن يُشترى ولو بفلسٍ واحد، هذا الكتاب لا يساوي ثمن الحبر الذي كتب فيه، ولا قيمة الطباعة، ولا قيمة الورق.
ثم يهون من شأن هذا الكتاب، حتى يُنفِّر الناس عنه! فليس عندنا وسط، لأن نقول: هذا الكتاب جيد ومفيد، وفيه جوانب طيبة، وهي كذا وكذا وبالمقابل فيه جوانب سلبية وهي كذا وكذا ويمكن للمسلم أن يقرأ الكتاب، فيستفيد من الجوانب الإيجابية ويحذر الجوانب السلبية.
هذا الأمر قليل عند المسلمين، بل الكثير إما أن يثني فيبالغ، أو أن يحطم هذا الجهد فيبالغ.
وهذا الكلام الذي أقوله في كتاب يمكن أن تقوله في شخص، فمن الناس من يُعِّظم شخصاً حتى يعتبره مجدد القرن، وحجة الزمان، وفريد العصر، ووحيد الدهر، وحجة الله على عباده، وأنه الذي لا يأتي الزمان بمثله أبداً، ويبدأ يضفي على هذا ما لا يحق له أن يقوله فيه.
وقد يأتي إنسان آخر لنفس الشخص، فيضع من قدره، حتى تشك هل بقي أصل التوحيد عند هذا الإنسان؟ هل هو من أهل القبلة والملة؟! لأنه أفرط في ذمه والقدح فيه وتقبيحه والوقيعة فيه.
فليس عندنا إنصاف حلول، ولا يمكن أن نقول: فلان رجل فاضل، وفيه خير وصلاح، واستقامة، وهو مجتهد، ولكن أخطأ في مسائل اجتهد فيها وما حالفه الصواب، أو أنه عليه نقائص وهي كذا وكذا.
ما أقل ما نعرف هذا! تجد أننا إما أن نرفع الشخص فوق قدره، أو أن ننزله دون قدره ومنزلته.
وما يقال في كتابٍ معين أو في شخصٍ معين؛ يمكن أن يقال في أي شيءٍ آخر، في شريط مثلاً، أو في نشاط إسلامي معين، أياً كان هذا النشاط، سواء كان دعوياً أو علمياً، أو جهادياً، أو في أي منهج من مناهج الدعوة، وفي جماعة من الجماعات، فتجد أن كثيراً من الناس إما أن يغلو أو يُفرط، ويضع من صفات المدح ما لا يليق، أو يُفرط ويسرف، فيضع من النقائص والعيوب ما لا يليق أيضاً.
وما أحوج المسلمين إلى النظرة المعتدلة، التي يأمر الله تعالى بها! فالله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان، قال الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] والله عز وجل لما ذكر الخمر قال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] والأمر هذا واضح، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر ملك الحبشة لأصحابه، وهو ملك كافر آنذاك، قال:: {اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد} لم يمنعه كون هذا الملك ملك الحبشة كافراً آنذاك، وأسلم بعد، أن يذكر أن هذا الرجل عنده عدل وإنصاف، ويحمي المظلومين، ولا يسمح بإيصال الظلم إليهم.
فهذه هي السنة الشرعية الواجبة، أن تعدل في حق الشخص، والجماعة، والكتاب، والشريط، والنشاط الدعوي، والقريب والبعيد، وتحرص قدر المستطاع، ألا تأخذك العزة بالإثم، وألا تحب فتسرف في المدح، أو تبغض فتسرف في القبح والذم، بل أن تكون وسطاً معتدلاً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] اجعل قلبك يا حبيبي متألهاً للحق، تعشق الحق حيثما كان، ولا تتعصب لغيره، وتقبل على كل شيء شاهداً من كتاب الله تعالى أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحب الناس إليك لا مانع أن تقول: فيه عيب وهو كذلك، وأبغض الناس إليك لا مانع أن تقول: عنده حسنة وهو كذلك.
إذاً: المسلمون -في كثير من الأحيان- ما عندهم توسط أو تفصيل، ما عندهم إلا أبيض أو أسود صح أو خطأ، ليل أو نهار، (100%) أو صفر، أما التوسط فهو قليل، فإذا أقبلوا على شيء أقبلوا عليه بكليتهم، وإذا أعرضوا عنه أعرضوا عنه بكليتهم، فتعاملهم مع الأشياء نستطيع أن نصفه -في بعض الأحيان- بأنه تعامل عاطفي، ليس تعاملاً بالشرع وبالعقل، وبالحكمة، بل هو تعامل بالعاطفة، وحتى من الناحية العاطفية هو تعامل غير سليم، فأنت تجد -مثلاً- الإنسان الذي يبالغ في الحب، غالباً ما ينتقض الأمر إلى أن يبالغ في البغض، وفي حديث علي رضي الله عنه، الذي جاء مرفوعاً وموقوفاً، عند الترمذي، أنه رضي الله عنه كان يقول: [[أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] وهذه حكمة أمسك عليها، الحكم إذا كان معتدلاً -موجود ولكنه باعتدال، وبدون إسراف- فإنه يستمر ويدوم ويثمر، لكن إذا كان حباً جارفاً مسرفاً فإنه يتحول إلى بغضاء، وهذا معروف فإنك تجد العاطفة -كما يقال- متقلبة، فإذا كان الإنسان ممن إذا أحب أسرف، تجد أنه ممن إذا أبغض أسرف، وتجد أن هذا الحب قد يتحول في كثير من الأحيان إلى بغضاء.