على سبيل المثال: القضية التي نعالجها نحن قضية أفغانستان.
جاء يوم من الأيام بعض الإخوة المتحمسين والغيورين، الذين بذلوا وضحوا وجاهدوا، وكانوا يتكلمون على قضية أفغانستان، وقالوا: هي فرض عينٍ على كسل مسلم أن يذهب إلى أفغانستان، ليقاتل هناك، فرض عين، صراحةً هناك صعوبة، أن أقول: إن الجهاد فرض عين، وحتى إن هؤلاء الإخوة كانوا يقولون: سئلتُ في عدد من المحاضرات وكنت أقول: إن هذا الأمر أعتبره أن فيه شيئاً من التسرع، وعدم الدقة في الحكم.
كيف يكون فرض عين على كل إنسان أن يخرج إلى أفغانستان؟! هذا غير صحيح، هناك فرق بين أن تحرض للذهاب إلى الجهاد، وتُحرض الناس على ذلك، وتدعوهم لأن يذهبوا ولو لبعض الوقت، وأن يحيوا في نفوسهم القوة والشجاعة والحماس، وأن يتخلصوا من حب الدنيا، ومن أسر الهوى، ومن الخوف، ومن معاني الذل.
وبين أن تصدر حكماً شرعياً أن كل مسلم لم يذهب إلى أفغانستان فهو آمن.
هذا صعب جداً؛ أن تلزم الناس شرعاً بأن يهاجروا إلى أفغانستان، ما معنى ذلك؟ دعك من الحكم الشرعي، وقضية فرض عين، معناه: أننا اختزلنا كل قضايا الأمة، ومشاكلها ومصائبها، والصعوبات التي تواجهها، فاختزلناها في قضية واحدة هي قضية أفغانستان، وفي مشكلة واحدة هي مشكلة أفغانستان.
مع أن الواقع يشهد بأن الأمة تعيش من الهموم والمشاكل والصعوبات وأنواع التخلف العلمي والاقتصادي والتقني، بل وقبل ذلك كله، التخلف العقدي والشرعي والسلوكي والأخلاقي، فهي تعاني من ألوان التخلف، شيئاً كثيراً جداً، يتطلب جهوداً جبارة لنقل الأمة عنه وإخراجها منه، فليس صحيحاً أنك تختصر قضايا الأمة كلها في قضية واحدة.
هذه القضية يجب أن تعطيها حقها، وهي -كما قلت في البداية- من أبرز القضايا، ومن يؤرخ لتاريخ المسلمين المعاصر، لو تجاهل قضية أفغانستان يعتبر خاطئاً، لكن هناك فرق بين كونها قضية كبرى وبين كونها هي القضية الوحيدة، هي قضية كبرى ولكنها ليست هي القضية الوحيدة، بل ثم عشرات القضايا يجب أن تكون في أذهاننا ونحن نتعامل مع قضية أفغانستان، أو قضية فلسطين، أو قضية أرتيريا، أو قضية الفلبين أو غيرها.
إذاً: ليس صحيحاً أن نصادر كل القضايا، ونقول: بقي شيء واحد هو أفغانستان، نبدأ منها، وننتهي عندها، لا، لأنه ليس صحيحاً أن نجعل كل مكاسبنا في أفغانستان، كما يقال في المثل: "أن تجعل البيض كله في سلة واحدة"، هب أن العدو -وهو عدو كاسر شرس متآمر، يملك من القوة ما يملك- هب أن العدو أدرك أن قضية أفغانستان قضية حساسة، وأن المسلمين مستميتون في الانتصار لها، فحشد قواه الشرقية والغربية، وأجلب بخيله ورجله، وقاوم المسلمين، وأبطأ النصر عليهم في بلدٍ معين كأفغانستان.
هل صحيح أن نجعل الأمور كلها مربوطة بهذه القضية؟ أم أننا يجب أن نجاهد في كافة الميادين وعلى كافة الأصعدة، ونعتبر أن قضية أفغانستان هي إحدى القضايا، وإحدى المكاسب، لكن لدينا قضايا أخرى ومكاسب أخرى، وينبغي أن نحافظ على الجميع جنباً إلى جنب.
أما في مقابل هذا الأمر الذي يقول: فرض عين.
قد تجد الطرف الآخر الذي يعتبر قضية أفغانستان، ليست في عداد القضايا المهمة عنده، فمن الناس -أصلاً- من لم يلقِ لها بالاً، وعلى مدى اثنتي عشرة سنة، كان المسلمون يسهرون الليالي، ويبذلون الدماء والدموع والأموال، ويبذلون فلذات أكبادهم على ميادين الجهاد، ومع ذلك وُجِدَ -ولا زال من المسلمين- من لا تعنيه هذه القضية في قليل ولا كثير، وكأنه ليس منها في قبيلٍ ولا كثير، وهذا أمر يصعب فهمه وتصديقه.