لا يكفي للصلاح مجرد الالتزام بالمظهر فحسب، بل لا بد من العناية بالقلوب وإصلاحها، وتذكر أن العبادات كلها إنما شرعت لإصلاح القلوب، فالصيام مثلاً شرع لصلاح القلب، وفرقٌ بين صائم تجده صام سمعه وبصره ولسانه فهو خاشع متعبد منفق أواب قارئ للقرآن ذاكر لله تعالى غاض لبصره، وبين آخر صائم ولكنه إما نائم، أو سهران على ما حرم الله من الأصوات والصور، أو مشتغلٌ بأعراض الناس، أو يسب ويشتم، أو يرفع صوته بالبذاءة على أهله وعلى زملائه في العمل وعلى المراجعين وعلى غير ذلك، أو يهمل عمله ولا يقوم به، أو يؤذي جيرانه؛ فلا يزيده الصيام إلا سوءاً وبعداً وإعراضاً وقسوة في قلبه.
خذ مثالاً آخر: العمرة وهي من الأعمال التي يكثر الناس من فعلها في رمضان، هناك فرقٌ بين معتمر ذهب لذكر الله تعالى والطواف بالبيت العتيق، وتعظيم شعائر الله، وتعاهد مقامات إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وذكر الله وطلباً للأجر {الصلاة فيه بمائة ألف صلاة} كما في صحيح البخاري، وبين آخر ذهب إلى العمرة فعلاً، لكن ذهب: إما للفخر، وإما عادة، وإما للترفيه والتسلية، أو ذهب مع أهله استجابة لطلب البنين والبنات! فيذهب هناك للأحاديث والكلام، وتنويع المآكل والمشارب والمطاعم، وربما يذهب الأولاد والبنات والأسرة، فيتركهم هناك في مثل تلك الأجواء التي هي فرصة بلا شك مع الإهمال لحصول لقاءات بين البنات والأولاد في الشوارع بعد صلاة الفجر: في المصاعد، في اللقاءات عبر النوافذ، عبر البلكونات، عبر الهواتف، بل عبر الركوب في السيارات، وقد رأينا وسمعنا وعرفنا من ذلك شيئاً كثيراً يندى له الجبين.
وكثير من الآباء يذهبون ويهملون أولادهم وأسرهم هناك، وربما لا يراهم قط، وربما يمنع الأهل من الذهاب إلى الحرم ثم يتركهم في الشقة لا يدري ماذا يصنعون، ولا ماذا يعملون، ولا إلى أين يذهبون، وربما يذهبون للأسواق كثيراً؛ فالبنات يقولون: الأم لها أغراض، ونحن لنا أغراض أخرى، والشباب كذلك، والشوارع ممتلئة وكثير من شوارع مكة ضيقة أزقتها، فيحصل من جراء ذلك شر مستطير، وقد يقع في هذا بعض الخيرين والخيرات، وأقولها بلسان عربي مبين ولا أقولها عن توقع أو ظن، فما بالك بمن لم يتربوا أصلاً على أجواء طيبة؟ ولم يتلقوا توجيهاً سليماً، وقد يكون في نفوسهم مرض الشهوة، وقد يكون في قلوبهم هيجان، وقد يكون فترة المراهقة والشباب مع الإهمال والترك، فيحصل من جراء ذلك شيءٌ كثير.
الحج أيضاً: هناك فرق بين من حج إرادة وجه الله وتطبيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه} وقوله صلى الله عليه وسلم عن عائشة وهو صحيح: {إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله} فرق بينه وبين من يحج إما للربح المادي لأنه حج عن فلان بآلاف مؤلفة، أو من أجل الرياء والسمعة، أو للسياحة، أو للاستطلاع، أو لغير ذلك من المقاصد، فينبغي التفطن إلى أن هذه العبادات والأعمال إنما شرعت لإصلاح القلوب، وينبغي ألا تحجب عما شرعت له وأن نقبل على إصلاح قلوبنا في هذا الشهر الكريم، فهو موسم مبارك لمن أراد أن يتقرب من ربه عز وجل؛ فإن القلب يكون فيه إقبال، ويكون فيه انكسار، والنفس يكون فيها برود عن المعصية وإقبال على الطاعة، والشياطين قد سلسلوا فما الذي يحول بينك وبين الله عز وجل؟! فأقبل على الله تعالى؛ فإن الله تعالى يقول: يا باغي الخير أقبل وهلم، ويا باغي الشر أدبر.
الخاتمة: أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا الذي لا إله إلا هو، الحي القيوم الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ أن يتقبلنا في هذه الليلة أجمعين، ويمحو عنا ما سلف من الذنوب والخطايا، وأسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب، أن يغيث قلوبنا بذكره وشكره وحبه، وأن يجعل حياتنا مليئة بجلائل الأعمال المقربة إليه، وأن يكتب لهذه الأمة النصر المبين، وأن ينقذ المستضعفين في كل مكان، وأن يفك أسر المأسورين ويرفع الضر عن المضطرين، وأن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، وأن ينصر من دعا إلى تحكيم شريعته ورفع رايته.
اللهم انصرنا على أعدائنا، اللهم انصرنا على شهوات أنفسنا، اللهم انصرنا على شياطيننا، اللهم وفقنا لما يرضيك من الأقوال والأعمال، اللهم اجعلنا ممن استهداك فهديته، واستنصرك فنصرته، واسترحمك فرحمته، وسألك فأجبته، اللهم لا تحجب دعاءنا بذنوبنا يا حي يا قيوم، اللهم اغفر لنا ذنوباً حجبتنا عن بابك، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، ومن عذابك نستجير، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغث المستضعفين في كل مكان، اللهم أرنا في الكافرين والمستكبرين يوماً أسود كيوم فرعون وقومه، اللهم أرنا في خصومك وخصوم دينك يوماً أسود، اللهم عجل عليهم بعذابك وبأسك يا حي يا قيوم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم عجل بالفرج والنصر للمسلمين في كل مكان، اللهم لا تجعلنا فتنة للقوم الكافرين، اللهم لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.