أيها الأحبة: نقطة رابعة: إن من الخطأ أن تتصور أنك لكي تدعو يجب أن تكون على مستوى خاص، وإعداد خاص، بل يجب أن يكون كل فرد منا داعياً ومدعواً في ذات الوقت، وموجِهاً وموجَها، ومتعلماً ومعلماً، وهذا سر من أسرار الكلام، وهذا سر من أسرار الكمال , وأود أن اقارن، مقارنة سريعة بين صورتين: الصورة الأولى: صورة الجيل الأول من المسلمين الذين كانوا كما يريد لهم الإسلام، كيف كانوا؟ خذ منهم نموذجاً واحداً، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {بينما أنا نائم، إذ أوتيت بقدح لبن، فشربت حتى أرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم} وفي الحديث الآخر أيضاً قال: {بينما أنا نائم إذ رأيت الناس وعليهم قمص، وعلى عمر قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين} .
إذاً: عمر في الذروة من العلم والدين، وفي وقت من الأوقات أصبح عمر بن الخطاب أمير المؤمنين تدين له رقاب كل الموحدين في مشرق الأرض ومغربها، ويوماً من الأيام كان يرقى على المنبر، أشرف مكان معد للحديث والخطابة، منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما يقول للناس: [[اسمعوا وأطيعوا]] فيقوم رجل من عامة المسلمين، فيشير إليه بيده ويعترض حديثه ربما قال عمر قولاً، فيعترض عليه بعض الحاضرين، حتى إنه في القصة المشهورة، قام عمر فنهى الناس عن المغالاة في صداق النساء، فقامت امرأة واعترضت عليه وقالت إن الله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء:20] فطأطأ عمر رأسه وقال: [[كل الناس أفقه منك يا عمر وأعلم منك]] وفي رواية قال: [[أخطأ عمر واصابت امرأة]] وهذه الرواية قال فيها السيوطي اسنادها حسن، واستشهد بها ابن تيمية في غير موضع كما في كتابه المعروف رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وبغض النظر، فنحن نملك عشرات القصص، فشخصية كـ عمر لا يأنف أن يعترض عليه أي رجل من عامة المسلمين، ولو كان الرجل المعترض بدون تاريخ، ولو كان ليس له سوابق، ولو كان غير معروف، ولو كان نكرة من النكرات.
فإذا تكلم سكت عمر حتى ينتهي من قوله، ثم ربما وافقه عمر على ما قال، أو بين له ما أشكل عليه، مع أنه في الذروة علماً وعملاً ودعوة وسؤدداً، وفي الجانب الآخر، لم تكن قضية الإسلام قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بل كانت قضية كل مسلم، وكل مسلمة، فلم يكن هناك رجل أو امرأة أو فتى أو كبير أو صغير من المسلمين، إلا تعنيه قضية الإسلام، حتى الأطفال والصبيان كانوا يؤدون دورهم، فيستقبلون المجاهدين بالأناشيد التي تثير الحمية والنخوة والحماس، كما كانوا يقولون: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ولذلك لا تقرأ ترجمة رجل من رجال الصدر الأول، أو من رجال التابعين إلا وتجد له من المناقب كذا وكذا، فهو حضر غزوة كذا، أو قتل واستشهد في كذا، أو أنه روى من الأحاديث كيت، أو كان له من المواقف ما له، إذاً كان ذلك العصر مملوءً بالرجال، وبالبطولات المتزاحمه، ولم يكن أحد منهم يرضى أن يكون انتسابه للإسلام انتساب شرف، عضو شرف، ولا أن يكون صفراً على الشمال، ولا أن يكون متفرجاً بل كل واحد منهم كان له مشاركة، كبيرهم وصغيرهم، هذا في جانب.