الولاء لمن

الْمَعْلَمْ الأول: أن تنظر الولاء عندك، أهو للطاعة وأهلها، أم للمعصية وأهلها، فإن العاصي إذا كان على سبيل الاستقامة والصلاح، فإنه وإن عصى الله تعالى إلا أن ولاءه وحبه وقلبه مع الطاعات، ومع أهل الطاعات، ولذلك فإنه كما قال الإمام الشافعي -رحمه الله- يقول: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره مَنْ تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة والشافعي -رحمه الله- يقول هذا على سبيل التواضع، لكن نحن نقوله على سبيل الحقيقة: أحب الصالحين ولست منهم، أنا عاص لكن أحب الصالحين؛ لأنه يجب أن أكون مثلهم، فإن قعدت بي همتي، وإن قعدت بي ذنوبي، فلا أقل من أن أحبهم، وأرجو أن أنال بهم شفاعة، وأكره أمثالي، وأكره من بضاعته المعاصي، وإن كنا سواءً في البضاعة، ولذلك يقول الشيخ أبو الحسن الندوي في بعض كتبه: إن هناك شاعراً هندياً كان مسرفاً على نفسه في المعاصي، يشرب الخمر ويتعاطى المحرمات، وكان منهمكاً وموغلاً في المعصية، ولكنه مؤمن مسلم، ويصلي الصلوات الخمس، ويحب الله ورسوله، فيوماً من الأيام كان عنده شابٌ عربي شيوعي ملحد والعياذ بالله فكانوا جالسين في الفندق في مقهى، يتعاطون الكؤوس، ويحتسون الخمر، ويتكلمون في شتى الشئون، ولا شأن لهم بالدين، فالمهم أن هذا الشاب العربي الشيوعي قام وبدأ يسب الرسول عليه الصلاة والسلام وينال من قدره، ويقول الندي: وكان هذا الشاعر الهندي ثملاً، يعني ليس صاحياً فالخمر قد لعبت برأسه، ولكنه لما سمع سب الرسول صلى الله عليه وسلم وسب الدين، يقول: اهتز واضطرب وزأر كما يزأر الأسد الليث الهصور، وقام وأخذ حذاءه وبدأ يضرب هذا الشاب، وينتحب ويبكي، ويقول: نعم شربنا الخمر وأخطأنا وأسرفنا وعصينا، لكن لم يبق لنا إلا حب الله ورسوله، والإيمان بالله ورسوله، وأنت تريد أن تنال من الله ومن رسوله في حضورنا، قال: فما زال يضربه حتى فقد هذا الشاب وعيه، وأظن هذا الشاعر تاب إلى الله تعالى وأناب وأقلع مما كان يفعله.

إذاً المهم: أن يكون العاصي يتذكر أن ولاءه يجب أن يكون لله جل وعلا، وقبل ذلك أذكر القصة التي تعرفونها جميعاً قصة أبي محجن الثقفي، فقد كان أبو محجن الثقفي يشرب الخمر في الجاهلية قبل الإسلام ويتغنى بها، حتى قيل عنه أنه كان يقول: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتى عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها يريد ممن يدفنه أن يدفنه إلى جنب كرمة، لتروي عظامه بعد موته، فلما أسلم تاب الله عليه، لكنه بقي مصراً على شرب الخمر، فجلد مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً، ولم توجد فائدة فالرجل مصر، وفي الأخير حبسه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في العراق وكان يحارب الفرس في العراق، فحبس أبا محجن الثقفي، وذهب يقاتل في القادسية هو والمسلمون معه، وأبو محجن الثقفي كان مأسوراً في الحبس والقيد في رجله، فكان ينظر من النافذة والجيش المسلم يقاتل الفرس، والسهام والسيوف تلمع، والرؤوس تتساقط، والدماء تسيل، وأبو محجن يقلب رأسه ويبكي، ثم بدأ ينشد ويقول بينه وبين نفسه: كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدوداً عليَّ وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصاريع دوني قد تصم المناديا وقد كنت ذا مال كثير وإخوة فقد تركوني واحداً لا أخا ليا لله عهد لا أخيس بعهده لئن فرجت ألا أزور الحوانيا فشعر بأن المعصية قد أقعدته عن هذا الموقف الشريف، ثم صاح أبو محجن بزوجة سعد بن أبي وقاص وقال لها: [[تعالي، فجاءته، وقالت له: ما بك يا أبا محجن، قال: لي طلب، قالت: وما طلبك؟ قال: فكي قيدي وأعطيني هذا الفرس، فرس سعد بن أبي وقاص، لأنه كان مريضاً وفرسه مربوطة، ودعيني أقاتل فإن مت فشهيد -إن شاء الله- وإذا نجاني الله فإني أعطيك عهد الله وميثاقه أن أعود حتى تضعي القيد في رجلي مرة أخرى، فترددت المرأة بعض الشيء، ثم أقدمت وفكت قيده وأعطته الفرس، فذهب وتلثم، وخاض المعركة لا يدع شاذة ولا فاذة في المشركين إلا أصابها، يضربها بسيفه، وكان فارساً قوياً لا يُشقُ له غبار، فكان سعد بن أبي وقاص ينظر في المعركة ويتعجب ويقول: الفرس فرسي والطعن طعن أبي محجن، ولكن أبا محجن في الحبس، من هذا الفارس الذي لا نعرفه؟! فلما انتهت المعركة رجع سعد إلى زوجته يقص لها القصة ويقول: حصل في المعركة كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، ومن ضمن ما قص لها، قصة هذا الفارس الملثم الذي لا نعرفه، قال: كأنه أبو محجن على فرس كأنها فرسي، فتبسمت سلمى زوجة سعد وقالت: هو والله أبو محجن، وهي والله فرسك، وأخبرته الخبر، فقدم أبو محجن إلى سلمى ورجع وقيدته، فقام إليه سعد وفكه بيده، وقال: اذهب -والله- لا أجلدك في الخمر أبداً، قال أبو محجن: وأنا -والله- لا أشرب الخمر أبداً]] .

إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره منهم سعد بن أبي وقاص، فلما حلف لا أجلدك في الخمر أبداً، تاب الله على أبي محجن، فقال: وأنا والله لا شربت الخمر أبداً.

إذاً أبو محجن كان واقعاً في معصية، وهي الخمر لكن لِمَنْ كان ولاؤه؟ أقول: كان ولاؤه لله ولرسوله وللمؤمنين، وكان يتمنى صباح مساء أن ينتصر الإسلام، ويتمنى أن يهراق دمه في سبيل الله عز وجل، فلم تجعله المعصية في صف الفساق أو العصاة أو المنافقين أو الكافرين، كما يقع مع الأسف الشديد لكثير من عصاة المسلمين في هذا الزمان، ربما أصبح العاصي إذا رأى الإنسان الطيب المستقيم لا يحبه، لماذا؟ يقول يذكرني أيام الطهر والنقاء والصلاح والاستقامة، أو يشعرني بالنقص والضعف الذي أنا فيه، كيف يكون واحداً من أولادي أحسن مني؟! يذهب إلى المسجد قبلي! ولا يشاهد التلفاز، ولا يتعاطى الربا، ويقصر ثوبه، وأنا ابن ستين أو سبعين سنة أعمل الأشياء هذه، فتجد أنه يبغض صاحب الطاعة من أجل أنه يذكره بما كان عليه من الطاعة، أو ما يجب أن يكون عليه، ويشعره بالنقص الذي هو واقع فيه!! إذاً لم يعد ولاؤه لله ورسوله وللمؤمنين وأصحاب الطاعة، بل أصبح ولاؤه لأهل المعصية.

وقد جرّت المعصية أقواماً من الناس إلى أن يتحالفوا على هذه المعصية، من أجل إغراق المجتمع في بحر من المعاصي، فيود الواحد منهم أن تكون المعصية ديناً عاماً، مثل السارق الذي عُلِّمَ بابه باللون الأحمر، فذهب وعَلَّمَ أبواب الناس كلهم باللون الأحمر؛ حتى لا يتميز من السارق، فهو يتمنى أن يكون الناس كلهم عصاة؛ حتى لا يتميز هو من بينهم، وحتى تكون المعصية تتحقق له بسهولة، فاليوم هو يخشى أن يُتَخطف! فهو يعصي لكن يخاف من السلطة، ويخاف من أن ينكشف، ويخاف من والديه، ويخاف من زوجته، لكن يتمنى أن يكون الناس كلهم عصاه، كما قال الله عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] إذن الْمَعْلَمْ الأول: اسأل نفسك لمن ولاؤك، هل هو لله ولرسوله وللمؤمنين وأهل الطاعة؟ أم هو لأهل المعصية والفجور والنفاق؟!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015