حال الاستغفار

الاستغفار يكون -أيها الأحبة- في كل حال، ليس الاستغفار خاصة بحال المعصية كما يتصور الجهال، كلا! بل الاستغفار يكون حتى في حال الطاعة، ولهذا فالله عز وجل أمر رسوله والمؤمنين أن يستغفروه وهم في حال التلبس بالإحرام، والنسك، والخضوع لله جلَّ وعلا، فقال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] .

فإذا أفاض الناس من عرفة مخبتين لله، ضاحين لمن أحرموا له، خالعين الدنيا كلها، أمرهم الله تعالى بأن يستغفروا الله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ثوبان في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا انصرف من صلاته قال: أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله} فهو يستغفر الله تعالى عقب الطاعة!! وليس عقب المعصية، لماذا يستغفر العبد عقب الطاعة؟ لأسباب: أولاً: لأن هذه الطاعة التي يقوم بها البعد لا تخلو من تقصير، أو غفلة، أو سهو، أو تفريط، أو شيءٍ لا يحيط به الإنسان، أو أن الشيطان يتسلط على الإنسان فيصرفه عن صلاته، أو يصرفه عن حجه، أو عن عبادته، أو عن صومه، فيقول: "أستغفر الله عما يكون في هذه العبادة من نقصٍ، أو خطأ، أو سهوٍ، أو تقصير"، هذه واحدة.

ثانياً: أن استغفارك عقب الطاعة إشعارٌ بأن هذه الطاعة شيءٌ قليل إلى جنب ما يجب لله الجليل جلَّ وعلا! فماذا تبلغ طاعتك بالقياس إلى حق الله جلَّ وعلا؟! إنها -والله- لا تكاد تكون شيئاً مذكوراً، خاصةً إذا تذكرت أن هذه الطاعة نفسها هي من فضله وامتنانه وإحسانه جلَّ وعلا، فحينئذٍ العبد يستغفر الله، مثل الذي يقول: ربِ سامحني عن التقصير في أداء شكرك وحقك! ثالثاً: أن العبد قد يداخله نوعٌ من العُجْبُ والاغترار بعمله، وهذا العجب قد يحبط العمل، فإذا قال عقب العبادة: "أستغفرُ الله" معناه أن هذا العبد صاحب قلبٍ عارف بحق الله جلَّ وعلا، عارفٍ بتقصيره، معترفٍ بعظيم جرمه، وهذا بإذن الله تعالى يكون وقايةً من كيد الشيطان بإدخال العجب والغرور على الإنسان، فهذا من أسرار استغفار الإنسان عقب الطاعة، وإذا كانت حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -كلها- طاعةً لله جلَّ وعلا، كما وصفت لكم، من دعوة، إلى عبادة، إلى علم، إلى هجرة، إلى جهاد، إلى غزو، إلى حج، إلى عمرة، إلى قيام، إلى صيام، إلى نسك، إلى صدقة، إلى تعليم، إلى صبر، إلى أخلاق فكان صلى الله عليه وسلم، كما وصف الله عز جلَّ وأمره: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] .

هكذا كان صلى الله عليه وسلم، ولما سُئلت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، قالت للسائل: هل أنت تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قالت: [[كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن]] ومع هذا كانت حياته كلها عبادة، ومع هذا في آخر حياته أنزل الله عليه قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] .

كان عمر رضي الله عنه يجمع كبار المهاجرين والأنصار في مجلسه، ويجمع معهم عبد الله بن عباس، فقال له بعض المهاجرين، يا أمير المؤمنين: إنك تأتي معنا بـ عبد الله بن عباس، وهو غلام صغير، كُلنا لنا أولادٌ في مثل سنه، فقال: إنه فقيهٌ عالمٌ!! ثم قال لهم: يا معشر المهاجرين! أرأيتم قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] ما تقولون في هذه السورة؟ فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم إذا جاء نصر الله والفتح أن يسبحه ويحمده ويستغفره، لا نعلم إلا ذلك، قال: فما تقول يا ابن عباس؟ قال: يا أمير المؤمنين! هذا أجلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبره به ربه!! قال عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم يا ابن عباس!! فعلم الصحابة رضي الله عنهم، لماذا كان عمر يقرب ابن عباس رضي الله عنه!! فكانت هذه السورة إيذاناً بقرب أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالمشروع للعبد أن يختم حياته بكثرة الاستغفار وكثرة التوبة إلى الملك الغفار جلَّ وعلا، ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في آخر عمره أن يسبح بحمد الله ويستغفره؛ إنه كان تواباً، فكان يسبح بحمد الله ويستغفره في قيامه وركوعه وسجوده وقعوده.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015