قصة وعبرة

وقد أحببت أن أبدأ كلمتي هذه بقصة أو حادثة رواها لنا الإمام مسلم في صحيحه، وفيها لنا عبرة أي عبرة، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما: {أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى خيبر كان هناك رجل من المسلمين يقاتل قتالاً شديداً ويبلي بلاءً حسناً، حتى إنه لم يدع للمشركين شاذّة ولا فاذة إلا أتى عليها يضربها بسيفه، فاجتمع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! ما أغنى عنا أحد اليوم ما أغنى عنا فلان -لم يبل أحد في الحرب والقتال مثل بلاء فلان بن فلان هذا- فقال لهم الصادق المصدوق المؤيد بالوحي من السماء: هو في النار، فاستغرب المسلمون ذلك أشد الاستغراب، وكاد بعض المسلمين أن يرتاب ويشك في الأمر -إذا كان هذا في النار فمن سيكون في الجنة إذاً- فقالوا: إنه قتل يا رسول الله كثيراً من المشركين، قال: هو إلى النار، فقال رجل منهم أنا صاحبه -يعني: أنا الذي سأتبع هذا الرجل في كل خطواته، وأعرف السر الذي من أجله حكم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل بالنار- فصار يتبع هذا الرجل خطوة بخطوة، فجاءت إشاعة عنه أنه قتل، ووجد أنه لم يقتل، وإنما أصابته جراح شديدة، ولا يزال حياً وفيه رمق، فجزع هذا الرجل من الجراحة التي أصابته، فقام فوضع ذباب السيف في صدره فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره، فجاء هذا الرجل يقول: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله -وكان هذا الرجل من قبل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله- ولذلك استغرب الرسول صلى الله عليه وسلم من تجديد النطق بالشهادتين، وعرف أنه لم يجدد ذلك إلا لأمر حصل أو علامة اطلع عليها تؤيد نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه بما جاء به، ولذلك لما قال له: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ -ما الأمر- فقال الرجل: يا رسول الله! الرجل الذي قلت: إنه من أهل النار، ذهبت فوجدته لم يمت وإنما جرح جرحاً شديداً، فجزع فقام فاتكأ على سيفه حتى خرج من ظهره ثم مات، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اذهب يا فلان -لواحد من أصحابه- فأذن في الناس أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وإن الله ليعز هذا الدين بالرجل الفاجر!} هكذا في رواية أبي هريرة أما في رواية سهل بن سعد فإنه صلى الله عليه وسلم قال: {إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة} .

فدعونا أيها الإخوة نتأمل قليلاً في معاني الكلمات التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من ينادي بها في الناس، إنه لم يأمر بالنداء بها إلا لأنها من القضايا التي يجب أن يعلمها العام والخاص، والصغير والكبير، والجديد والقديم في إسلامه.

القضية الأولى: أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، فمهما عمل الإنسان من الأعمال بدون إيمان بالله، فإن هذه الأعمال لا تقربه إلى الله، بل تبعده عن الله، ولا تدخله الجنة، بل تزيد من توغله في دركات النار! انظروا -مثلاً- إلى المنافقين لقد كانوا يصلون مع الرسول صلى الله عليه وسلم ويحجون ويصومون، بل ويجاهدون معه صلى الله عليه وسلم! ومنهم من يقتل في المعركة، ومع ذلك لم تزدهم هذه الأعمال قربة من الله ولا قربة من الجنة، بل حكم الله عز وجل عليهم بأنهم أحط درجة في النار من الكفار أنفسهم ومن المشركين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] فالكافر الحقيقي والمشرك الحقيقي هو في النار فوق المنافقين، فأعمال المنافقين التي ظاهرها أنها أعمال صالحة لم تزدهم إلا انحطاطاً وسفولاً في دركات جهنم والعياذ بالله لماذا؟ لأنها فقدت الجذر التي تمتد به في الأرض، فقدت الأصل الذي تنتسب إليه فصارت أعمالاً حابطة لا قيمة لها، فقدت الإيمان بالله.

وانظروا إلى قوله تعالى في شأن المرائين: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] هو مصلٍ، ولذلك يتوعد بالويل وهو العذاب؛ ليس لأنه مصلٍ ولكن لأنه كما قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:5-7] .

إذاً هذا المصلي الذي تجشم المتاعب، وقد يكون قام لصلاة الفجر -مثلاً- واغتسل بالماء البارد، ومشى في الجو البارد، وصلى مع الناس، تجشم كل هذه المتاعب، ومع ذلك كان جزاؤه أن يتوعده الله عز وجل بالويل وهو العذاب، لأنه فقد الأصل -الإيمان- الذي تنسب إليه هذه الأعمال وتكون به أعمالاً صالحة.

فالمنافقون والمراءون لم تزدهم أعمالهم -التي قصدوا بها ما عند الناس- من الله إلا بعداً، ويوم القيامة يقول الله تبارك وتعالى لهم بعد أن يثيب المؤمنين: {اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء} وفي الحديث القدسي الصحيح يقول الله تبارك وتعالى: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه} وفي لفظ: {فهو للذي أشرك وأنا منه بريء} فكل عمل عمله الإنسان قصد فيه غير وجه الله، أو قصد فيه وجه الله مع أمرٍ آخر، فإن هذا العمل يكون حابطاً وهباءً منثوراً! لا بل لا يخرج الإنسان منه كفافاً لا له ولا عليه، بل إنه في موازين سيئاته يوم القيامة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015