الحادثة الخامسة: يرويها النسائي، وأحمد وغيرهما، عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه وعن أبيه {أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم في إحدى صلاتي العشاء -إما المغرب وإما العشاء- وهو حامل حسناً، أو حسيناً على كتفه، فتقدم صلى الله عليه وسلم فوضع الصبي ثم صلى بهم وكبر، فلما كان في سجدة، بين ظهراني الصلاة أطال السجود جداً، حتى قال شداد:فرفعت رأسي فإذا الصبي فوق ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرجعت فسجدت، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته قال الناس: يا رسول الله! صنعت شيئاً لم تكن تصنعه، قد أطلت سجدة بين ظهراني صلاتك حتى ظننا أنه قد حدث أمرٌ أو أنه يوحى إليك - أي: أنه أطال السجود حتى إن الناس قد أصابتهم الريبة، فربما شكّوا هل أصاب رسول الله شيء؟ هل نزل به أمر؟ أم أنه يوحى إليه، فهذا الرجل رفع رأسه فعرف القصة أما بقية الناس فلم يكونوا يعرفون- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس شيئ من ذلك كان، غير أن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته، وينزل من تلقاء نفسه} .
إلى هذا الحد كانت شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لطفه وتسامحه، أولاً: خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وهو يحمل الحسن على كتفه هذا مشهد لم نره قط، ولو حدث من إنسان من العلماء أو الدعاة لربما تعجب الناس منه، فكيف إذا حدث من سيد الدعاة، وأعظم العلماء؛ النبي صلى الله عليه وسلم يخرج هذه المرة، والحسن أو الحسين على كتفه ثم يجعله إلى جواره، فيتسلل هذا الصبي ويتسلق حتى يرتقي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا يعجله الرسول حتى يقضي حاجته.
ولسنا نشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ساجد كان يناجي ربه؛ والسجود هو من أعظم حالات القرب من الله جل وعلا كما في الحديث: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد} وكان عليه الصلاة والسلام يحمد ربه بمحامد ويسبحه ويثني عليه ويقول: {أما السجود فادعوا الله أن يستجيب لكم} ولما نزل قوله {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] قال: {اجعلوها في سجودكم} فكان مستغرقاً في تسبيح ربه ودعائه وتحميده واستغفاره، ولكن مع ذلك كان من عادته عليه الصلاة والسلام في صلاته أن يجعل قيامه وركوعه وسجوده واعتداله بين السجدتين قريباً من السواء، أما هذه المرة فقد أطال هذه السجدة لعارض وهو أن ابنه ارتحله، فكره أن يعجله، حتى يقضي حاجته.