معركة عين جالوت

المثال الأول: يتعلق بمعركة عين جالوت، يقول أبو الحسن الخزرجي عن أهل بغداد قبل أن يستولي عليهم التتر، يقول في وصف حالهم: واهتموا بالإقطاعات والمكاسب، وأهملوا النظر في المصالح الكلية، واشتغلوا بما لا يجوز من الأمور الدنيوية، واشتد ظلم العمال، واشتغلوا بتحصيل الأموال.

ويقول قطب الدين الحنفي يصف أهل بغداد في زمن المستعصم: مرفهون بلين المهاد، ساكنون على شط بغداد في ظل النخيل وماء معين، وفاكهة وشراب، واجتماع وأحباب وأصحاب، فما كابدوا حرباً، ولا دافعوا طعناً ولا ضرباً -فهذا حالهم كحالنا اليوم في كثير من البلاد الإسلامية- فلما قيض الله عز وجل للمسلمين الملك المظفر قطز الذي يضرب به المثل في نزاهته، وعدالته، وشجاعته، وحزمه، وصبره، ووفائه، وتضحيته، وحكمته، وإخلاصه في الدين، ويضرب -أيضاً- مثلاً أعلى للحاكم الصالح والرجل الكامل، حتى أنه كان من شدة ما حصل أن التتر حينما زحفوا على العالم الإسلامي يخربون، كان ملوك الشام ومصر مشغولين بقتال بعضهم بعضاً، وكيد بعضهم بعضاً، لا يجدون حرجاً أن يستنجد أحدهم بالصليبيين على منافسيه من المسلمين، وقبيل المعركة الفاصلة قضى الملك قطز مدة طويلة في إصلاح الرعية والمملكة.

وقد ملأ الجيش المصري بروح الفداء والاستماتة للدفاع عن الدين، فإذا به يحن شوقاً للجهاد في سبيل الله عز وجل، واستطاع الملك المظفر أن يهدئ قلوب الناس بعد أن كانت ترجف هلعاً من ذكر التتر، ولما دخل شهر رمضان وصام الناس بضعة أيام؛ نودي في القاهرة وسائر مدن مصر وقراها بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل، ونصرة دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحس الناس وكأنهم في عهد من عهود الإسلام الأولى، وطغى هذا الشعور على جميع طبقات العامة، حتى كف الفسقة عن ارتكاب المعاصي، وامتنع المدمنون عن شرب الخمور، وامتلأت المساجد بالمصلين، ولم يبق للناس حديث إلا الجهاد، وأمست ليلة الجمعة لخمسٍ بقين من شهر رمضان ولم ينم الملك المظفر تلك الليلة، بل قضاها في ترتيب العسكر وإصدار الأوامر، وكان في خلال ذلك يكثر من ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن.

إذاً: استطاع بهذا العمل أن يجعل الأمة كلها تعيش حركة جهاد، وحالة استنفار وتعبئة معنوية ونفسية جادة، ولذلك لما بدأت المعركة، وهجم المسلمون على التتر، وهبت رياح الجنة، حينئذٍ خلع الملك المظفر خوذته وصرخ بأعلى صوته وهو يقول: وا إسلاماه (ثلاث مرات) واندفع يضرب رءوس التتر يطلب الشهادة في سبيل الله عز وجل، فحمي المسلمون، وقلدوا ملكهم، واستبسل وزيره بيبرس، ثم قتل قائد التتر، وطوق المسلمون العدو، وحالوا بينهم وبين الفرار، وأفنوهم ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، وانتهت المعركة وخرَّ الملك ساجداً لربه عز وجل، وأطال السجود، ثم رفع رأسه والدموع تتحادر على لحيته حتى سلم من صلاته، وامتطى صهوة جواده، ثم خطب قائلاً: أيها المسلمون، إن لساني يعجز عن شكركم، والله وحده قادرٌ أن يجزيكم الجزاء الأوفى، لقد صدقتم الجهاد في سبيله فنصركم على عدوكم، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] أيها المسلمون، إياكم والزهو بما صنعتم، ولكن اشكروا الله واخضعوا لقوته وجلاله، إنه ذو القوة المتين.

إذاً: الأمة -أولاً- تصاغ على الجهاد ثم تخوض المعركة بعد ذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015